المعاهدات التجارية خط الدفاع الأول ضد التوغل الاستعماري الفرنسي اتفاقيات بكار ولد اسويداحمد نموذجا

 

المعاهدات التجارية

خط الدفاع الأول ضد التوغل الاستعماري الفرنسي

اتفاقيات بكار ولد اسويداحمد نموذجا

 

 

توطئة

 

   شكل مؤتمر برلين 1884-1885، البداية الفعليةلمساعي "شرعنة" إخضاع الشعوب الإفريقية بطريقة تعسفية. فبموجب بنود الاتفاق المنبثق عن هذا المؤتمر الدولي، منحت الامبراطوريات الاستعمارية وألمانيا لنفسها حق تقاسم المجال الإفريقي، بما يحفظ مصالح هذه الامبراطوريات، ويضمن في الوقت نفسه عدم نشوب نزاعات قد تفضي إلى صراعات مسلحة فيما بينها.

وقد بدأت إرهاصات تطبيق مضمون اتفاق مؤتمر برلينبالنسبة للمجال الموريتاني مع اتفاقيات الحماية، التي أشرف عليها مهندس التوغل الاستعماري الفرنسي في موريتانيا كزافيي كوبولاني Xavier Coppolani خلال سنتي 1888 و1889 في مناطق "السودان الفرنسي"Le soudan français  ، حيث شكل هذا الموقف تغييرا جذريا في سياسة فرنسا الاستعمارية اتجاه المجال الموريتاني، والتي ظلت متوجسة ومترددة، بسبب المخاوف التي طالما راودت رؤساء الحكومات الفرنسية في سينلوي، حول العواقب الغامضة لمغامرة غير محسوبة في "فضاء صحراوي قاحل".

غير أن مستجدات كثيرة ظهرت مع بداية القرن العشرين، ولعل أهمها رغبة فرنسا في ربط مستعمراتها في الشمال والجنوب، و"المؤشرات الواعدة" التي دفع بها كوبولاني في سبيل إقناع رؤسائه بأهمية احتلال الأراضي الموريتانية، من خلال أسلوب "التوغل السلمي". 

لكن هذه "الإرادة السلمية" المعلنة، سرعان ما تحولتمع مطلع سنة 1903 إلى غزو مسلح واجتياح عسكري غاشم للأقاليم الموريتانية.

كانت نذر هذا الغزو المسلح كافية لإشعال فتيل مقاومة مسلحة استمرت على مدى ثلاثة عقود، قادها رجال من مختلف جهات وأعراق وشرائح المجتمع، تنادوا لحماية الحمى، واجتمعوا لمناوءة الاستعمار، فدفعوا أرواحهمثمنا لذلك، وسقوا بدمائهم الزكية بذرة الوطنية الأولى في هذه الأرض.

لم يكن الأمير المجاهد بكار ولد اسويداحمد أول من حمل السلاح في وجه الاستعمار، لكنه ومنذ أن دخل ساحة المعركة أصبح قطب المقاومة وروحها، والقائد الملهم لكل المجاهدين.

كانت علاقة الأمير بالفرنسيين منذ البداية، هي علاقة مناهضة ومناوءة، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى عداء مفتوح وصراع مسلح مع بداية سنة 1904. 

فرغم سريان مفعول الاتفاقات الثنائية بين فرنسا الاستعمارية وإمارة تگانت، ظل الشك يراود الفرنسيين باستمرار حول النيات الحقيقية لبكار، حتى تشكلت لديهم القناعة أن ما يقدمونه له من عطايا عينية هو أقرب إلى المداراة والغرامة منه إلى تطبيق بنود اتفاق بين طرفين متكافئين، وعند هذه النقطة بالذات بدأ الطرفان في الاستعداد للصدام المسلح الحتمي، حيث ستشكل هذه المواجهة بمعاركها الكبرى إحدى أهم ملاحم الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي في البلاد الموريتانية، وكان الأمير بكار ولد اسويداحمد هو صانع هذه الملحمة وبطلها بلا منازع..

 

إطار مستقل..    

    ]في منتصف العقد الثاني من القرن التاسع عشر، وفي مكان ما من إقليم تگانت، توقف ركب ظاعن لحظة ليشهد على مولد طفل قوي البنية، ممتلئ وضخم، ذكي ومندفع.. هو الأمير بكار ولد اسويداحمد..

أبان الأمير منذ نعومة أظافره عن ملكات ذهنية ومهارات قتالية فريدة، وأظهر عشقا مبكرا للفروسية، دفعته إليه رغبة مبهمة خفية، وولعا فطريا بالألعاب الحربية..

وشيئا فشيئا تحول الفتى إلى مركز للأحداث التي بدأ يوجهها من موقع "الشاهد والفاعل"، فقد حباه الله "ذكاء منقطع النظير وعبقرية سياسية وقيمة عسكرية.. وقوة شخصية وروح زعامة..".

أظهر الأمير بكار ولد اسويداحمد، مواهب وقدرات قيادية، نمت وتطورت في ظل نظام اجتماعي، يحث الفرد على تمثل "قيم البطولة والتضحية والإقدام والنخوة والشهامة". و"يخضع أبناءه منذ الصغر لتربية قاسية، لتعويدهم على حياة الغزو..".  

تشكلت ملامح شخصية الرجل في هذا الجو الذي يطبعه تدافع الأحداث وقسوتها، لكنه بالمقابل يعطي فسحة للنبوغ والتميز على الصعيد الفردي. من هنا استمد الأمير عناصر عصاميته، واكتسب شروط تميزه عن غيره..

لقد جسدت هذه العصامية أسلوبه الفريد في قيادة أفراد وجماعات، لم تعرف يوما سطوة السلطة المركزية المنظمة، فنجح في استقطاب الأنظار وتوجيه الأحداث الجسام التي دارت من حوله، حيث شكلت حكمته ونهجه التصالحي، صمام أمان وعامل وحدة وتماسك، خلال سنيي عمره المديد..[

 

 

 

مراكز التبادل التجاري وهدنة القرن التاسع عشر

    اعتمد بكار منذ البداية سياسة ممانعة، شكلت روح الاتفاقيات المبرمة مع الفرنسيين على مدى القرن التاسع عشر، وكان هدف هذه الاستراتيجية هو إبقاء الفرنسيين خارج حدود البلاد، من خلال إلزامهم بالتوقيع على معاهدات تحصر نفوذهم في مراكز التبادل التجاري على الضفة الأخرى للنهر. 

ولا شك أن الرجل كان يدرك، عندما وقع على بنود هذه الاتفاقيات الخلل الكبير في ميزان القوى بين قوة استعمارية توسعية عظمى، مدججة بأحدث أنواع الأسلحة، ومحاربين لا يتوفرون على أكثر من بنادق تقليدية تكرارية.

ويبدو أن عقد الاتفاقيات وإبرام المعاهدات التجارية على وجه الخصوص مع المستعمر ظل يشكل نمطا من أنماط المقاومة، تبنته الإمارات الموريتانية منذ القرن السابع عشر، وهو نمط يتلاءم إلى حد بعيد مع معطيات وواقع ذلك العصر، حيث مكن باستمرار من إبقاء خطر هذه القوة الغاشمة خارج حدود البلاد.

ونظرا إلى أن بنود هذه الاتفاقيات التجارية كانت تتضمن دفع تعويضات عينية، تشكل الأسلحة جزءا أساسيا منها. فقد شكل استمرارها بالنسبة للأمير بكار جزءا من استراتيجيته العسكرية ورؤيته البعيدة للأحداث، حيث منحته هذه المعاهدات فرصة التسلح على حساب "عدو محتمل"، وهو ما سيمكنه من إعداد العدة للمواجهة العسكرية التي ظلت متوقعة بالنسبة للطرفين، رغم الهدنة الطويلة الظاهرة. 

وسوف تؤكد الأحداث اللاحقة أن هذه البنادق المتطورة نسبيا ستساهم إلى حد كبير في مقاومة الزحف الفرنسي على الأراضي الموريتانية.

ويشير المستكشف الفرنسي ماج Mage إلى هذا النهج في الاستقواء بوسائل العدو في استعراضه لرحلته الاستخباراتية عبر المجال الموريتاني، حيث يذكر أن بكار كان غنيا وقويا بفضل الدقيق والبنادق التي كانت تعطى له إذ ذاك، كرسوم عرفية في "بكل".

 

 

 

 

 

 

إطار مستقل..

]جدول يوضح تعداد الأسلحة ذات الطلق السريع مع ذخيرتها كضرائب عرفية، مسددة لإمارة الترارزة في الفترة ما بين سنتي 1785 و1838م: 

السنة 

البنادق 

البارود (بالرطل)

القداحات 

الرصاص

1785

84

132

2.300

2.000

1786

51

90

1.200

1.000

1817

115 

193 

2.700 

3.000 

1821

36 

148 

3.100 

3.050 

1829

137 

3193.4  

5.300 

5.700 

1838

134 

1526.8 

5.100 

5.400 

المجموع العام 

557 

10.350.2 

19.750 

20.050

المعدل السنوي 

93 

1725 

3.291.66 

3.341,66

أهم الاتفاقيات التجارية بين إمارة تكانت والفرنسيين

    كان أول اتفاق بين الطرفين سنة 1821 بين الحاكم الفرنسي للسنغال لي كوبي والأمير محمد ولد محمد شين، حيث تم بموجب هذا الاتفاق إنشاء مركز تجاري للتبادل في "بكل".وكان هدف الفرنسيين من هذا الاتفاق هو التوسع شرقا عبر الضفة، بعد أن عقدوا اتفاقيات مع الترارزه ولبراكنه، في حين كان هدف إمارة تگانتمنه هو الحصول على نصيب من العائدات الكبيرة، المتأتية من تجارة الصمغ العربي "العلك".

أما الاتفاق الثاني بين الإمارة والفرنسيين، والأول في عهد بكار، فقد تم إبرامه في أعقاب الحرب التي شنها الحاكم الفرنسي في السنغال فيدرب Faidherbe علىإمارة الترارزه، والتي سعى من خلالها إلى تحسين شروط التبادل التجاري وتعديل ميزان القوى لصالح الفرنسيين. وقد وقعت الاتفاقية في "بكل" سنة 1857، حيث تم لأول مرة استحداث نسبة 3%من قيمة المبادلاتفي المراكز التجارية الفرنسية، بدل العطايا العينية. 

وقد حاول الفرنسيون من خلال هذا الاتفاق دفع بكارإلى توفير الحماية العسكرية للقوافل التجارية، التي تجلب الصمغ العربي إلى المراكز التجارية عبر مجال نفوذه الجغرافي، حتى يحصل على أكبر نسبة ممكنة من المبيعات.

ويبدو أن هذا الاتفاق كان أول محاولة جادة من الفرنسيين لفرض حماية فعلية على هذا المجال الجغرافي. وقد أدرك بكار مبكرا هذه النيات التوسعية منذ أن استقبل عنصر الاستخبارات الفرنسي ماج  Mage سنة 1860 في تگانت، وهو الاعتقاد الذي شاطره فيه حينئذ حلفاؤه، بل إن النقيب غاستون دوفور  Gaston Dovor يشير إلى أن الأمراء أدركوا هذه الحقيقة منذ القرن السابع عشر، حين يؤكد أنهم أصبحوا: "أعداءنا منذ اليوم الذي أردنا فيه استعمار السنغال.. فقد رأوا في هذه السياسة(...) سيطرة قريبة على بلادهم"، ويبدو أن نفس الهاجس كان قد تولد لدى الفرنسيين، عند احتلالهم للسنغال، فقد عمدوا إلى"تبنى استراتيجية عسكرية تعتمد على سياسة هادئة، أساسها سد المنافذ؛ وهكذا تصور فكرة حماية السنغال بسلسلة من المراكز، تقام عند تقاطع الطرق الريفية، لحراسة المناهل".

لقد شكل هذا اللقاء بين بكار وماج أول اتصال مباشر غير رسمي مع مبعوث فرنسي على الأراضي الموريتانية.

والواقع أن هذا الاتفاق تزامن مع حملة استكشافية فرنسية، بدت منظمة وممنهجة سبقته وستعقبه، بدأت مع الرحالة موليينMoline سنة 1818، وانتهت بأستاذ العلوم شودو Chodo سنة 1908، في ذروة التوغلالمسلح في الأراضي الموريتانية، فقد "مثلت مشكلة الوصول إلى المدن التجارية (...)واستكناه مجاهيلها محورا متميزا وثابتا من محاور اهتمامات الإدارة الفرنسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حينما أدرك الفرنسيون الأهمية التي تكتسيها تلك المدن على الصعيدين الاقتصادي والثقافي، ودورها المحتمل في مواجهة التوغل الفرنسي في البلاد، يقول كزافيي كوبولاني :"إن من يريد حكم الصحراء لا بد أن يسيطر على الواحات..".

وتعتبر رحلة اعلي صال إلى المناطق الوسطى والشرقية من البلاد الموريتانية أولى المحاولات الناجحة في هذا الصدد، وإذا كان هذا الرحالة لم يتمكن من دخول مدن تگانت جراء "احتجازه" من طرف الأمير بكار فإن رحلته الطويلة والشاقة عبر الأجزاء الشرقية من البلاد قد أسفرت عن دخوله ولاته وباسكنو".  

وتتضح الأهداف العسكرية لهؤلاء المخبرين من خلال استعراض أهداف بعثة بلانشي Plancher "العلمية" التي "يتحدث [فيها] عن توفر المياه "الكافية لرتل من المشاة"، ثم عن إمكانية تربية الخيل في آدرار"إذا كنا(يعني الفرنسيين) ننوي نشر بعض الخيالة في هذه البلاد".

لقد أدرك بكار منذ البداية هذه الأهداف غير السلمية للمستكشفين، فقرر منعهم من بلوغ أهدافهم، وهو ما عكسته "المعاملة التي تعرض لها ماج Mage (نهب قافلته واستقباله بفتور من جانب الأمير بكار الذي منعه من دخول مدينة تجگجه ومن مواصلة رحلته نحو تيشيت وولاته)، [والتي]مثلت جوابا ضمنيا على محاولات جس النبض تلك، وجعلت الفرنسيين يبحثون عن طرق أخرى، مستغلين لهذا الهدف مستكشفين محليين، يتكلمون اللغة العربية ويدينون بالإسلام".

ولم يكن بكار الوحيد الذي استشعر هذا الخطر حينها، فقد شاطره الشيخ سيدي الكبير الذي دعا سنة 1858 إلى اجتماع في قرية تندوجه، حضره أمراء الترارزهولبراكنه وتگانت، لمحاولة تشكيل حلف عسكري ضد الفرنسيين.

بعد انتهاء الحرب بين محمد لحبيب أمير الترارزهوالفرنسيين ورحيل فيدرب، تغير ميزان القوى لصالح إمارة تگانت، وأصبح جليا أن الاتفاق الأخير بين الطرفين أصبح في حكم الميت، فقد أطلق بكار، في ذروة خلافه مع الفرنسيين كلمته المشهورة: "إن الفرنسيين أصبحوا يظهرون استعلاءهم ويجب وضع حد لذلك"، ومن المرجح أنه منذ سنة 1886 بدأت مرحلة الإعداد الفعلي، المادي والمعنوي للمواجهة المسلحة.. 

وربما كان بكار قد أطلق كلمته هذه، التي أحدثت أثرا نفسيا بالغا لدى الفرنسيين، كرد فعل على نهج الاستعلاءوالاستخفاف بالطرف الآخر، الذي كان قد بدأ مع سياسة فيدرب وحربه مع الأمير محمد لحبيب. ويبدو هذا الأمر جليا من خلال المقطع التالي من كلمة لمذيع فرنسي، بعد هذه الحرب، حيث يقول :"سيعلم الجميع من هنا، أن الحكومة الفرنسية مصممة على الحفاظ، في إطار سياستها المتبناة ]… [بأنتسلبهم (أي الموريتانيون) حتى ظل أمانيهم في الهروب من تنفيذ أوامرنا". 

وفي هذا الإطار يقول فيدرب نفسه :"يجب علينا ـ حسب الأوامر التي نتلقاها من الوزير ـ أن نفرض إرادتنا ]… [ ويجب إلغاء المحطات واستخدام القوة إذا لم يتسنى الحصول على المطلوب بطريقة الإقناع، وإلغاء كافة الإتاوات التي كنا ندفع لممالك النهر ما عدى بعض الهدايا التي يروق لنا إعطاؤها، كدليل على أريحيتنا..يجب أن نكون نحن الأسياد المطلقين لهذا النهر..". ورغم كل ذلك، فقد استمر الفرنسيون في دفع هذه "الإتاوات" حتى سنة 1902.

في مواجهة هذا "الصلف" الفرنسي، كان لبكار أسلوبه الخاص في الرد، فقد عمد في خطوة أولى إلى تشكيل حاضنة لقادة المقاومة المسلحة في منطقة النهر، فكان أن استقبل عالي يورو انجاي الذي قاوم الفرنسيين في السنغال، وهو حليف كان عبدول بوبكار، الذي هاجر هو الآخر إلى بكار، حيث توفي مغدورا سنة 1891م.   

ورغم التدهور المستمر في العلاقة بين الطرفين، إلا أنهما عقدا اتفاقا ثالثا جديدا سنة 1895، غير أن الفرنسيين ما لبثوا أن اعتبروه مجرد حبر على ورق، لأن بكار لم يحترم بنوده واستمر في ممارساته المخالفة لروح الاتفاق المذكور، بل إنه أظهر تنصلا متزايدا من كل المعاهدات، ولم تفتأ الشكاوى تتوالى من السلطات الإدارية في دكانه، بودور، كيهيدي وماتام.

لقد شكل هذا الواقع إهانة غير مسبوقة لكبرياء فرنسا الاستعمارية، وهو ما يلخصه النقيب غاستون دوفور Gaston Dovor بالقول:"كانتالعوائد في نظر ]… [ (الموريتانيين)، غرامة تجبى من الكفار مما خلق لنا وضعا مذلا.. لم يكن بوسعنا تأخير تدخلنا لوقت أطول وكان محتملا أن يؤثر استمرار الوضع السائد آنذاك على نفوذنا بالمناطق الصحراوية، بل وأن يضر بمكانتنا عند السودان كذلك، ومن جهة أخرى فقد كان ضروريا لتحقيق مشاريعنا بخصوص المغرب، أن نحتل المنطقة الواسعة الممتدة بين هذا البلد والسنغال."

بدا أن الطرفين يتجهان إلى الصدام المسلح بعد هذا "الاتفاق" الأخير، خاصة مع ظهور كوبولاني ومشروعه "السلمي" القاضي باجتياح الأقاليم الموريتانية بقوة السلاح..

 

الضربة الاستباقية..

 

     يؤكد مسار الأحداث، وطبيعة العلاقة المتشنجة بين الأمير بكار ولد اسويداحمد والإدارة الاستعمارية الفرنسية، والتي استمرت على مدى ما يناهز ستة عقود من الزمن أن اتفاق سنة 1895 كان مجرد غطاء سياسي، أوجده الأمير للتمويه على خطة عسكرية جريئة ومحكمة على وشك التنفيذ، تم الإعداد لها قبل هذا التاريخ، وكانت في مراحلها المتقدمة عشية الاتفاق المذكور، حيث أشرف عليها الأمير بنفسه، بالتعاون مع أربعة من أبنائه، وهم: 

ـ عبد الله 

ـ الحسين 

ـ أحمد محمود 

ـ وأحمد ديه

وقد علم الفرنسيون بتفاصيل الخطة المذكورة 1894 بمحض الصدفة عن طريق مبعوثهم إلى المنطقة، الترجمان محمدن الملقب دودو سك ابن المقداد، عندما كان في مهمة خاصة لدى بعض بطون المحيط الاجتماعي للأمير بكار، في محاولة لعقد تحالف جديد، يأمل الفرنسيون منه أن يحدث شرخا في هذه المجموعة التي بدت أكثر تماسكا من ذي قبل، وهو ما قد يؤثر سلبا على ميزان القوى بين بكار والفرنسيين، ويضعف موقفه العسكري من خلال عملية استنزاف تستهدف محيطه الاجتماعي القريب. 

لكن محاولات الفرنسيين في هذا المجال غالبا ما كانت تتحطم على صخرة المصالحة الداخلية المستجدة تحت وقع التهديد الخارجي، وهو ما أشار إليه بيير آميلهاتPierre AMILHAT، حيث يصف حالة التلاحم التي سادت في وجه الخطر الداهم قائلا: "لقد حقق التهديد الفرنسي، ما لم تحققه المفاوضات والحروب على مدى مائة سنة".

 

ومما لا شك فيه أن مهمة الرجل التي تركز على إحياء النعرات وإثارة الخلافات الداخلية بين القبائل، وحتى داخل القبيلة الواحدة كانت منسجمة إلى حد بعيد مع روح السياسة الفرنسية، المبنية على المبدأ الاستعماري سيئ الصيت "فرق تسد". 

تمكن مبعوث الفرنسيين إذن من خلال عيونه وأعوانه من الحصول على معلومات أمنية في غاية الأهمية، حيث علم أن الأمير بكار "يحضر ضدنا(الفرنسيين) مشاريع خطيرة لا يعرقل تنفيذها إلا الحرب التي يخوضها[...]".

ولكن تأكيدات دودو سك حول التنفيذ الوشيك لعملية عسكرية ضد التواجد الاستعماري على الضفة، كانت ممزوجة بتمنياته باندلاع حرب داخلية بين بطون المجموعة الواحدة، قد تشغل عدو الفرنسيين اللدود عن مشاريعه الكبرى ".. إن الحرب الداخلية [...] لن تسمح على ما يبدو لبكار بتنفيذ مشروعه بالثأر منا، عن طريق قطع الاتصالات عبر الصحراء مع المحطات التجارية النهرية. وهذه المهمة ستسند إلى أربعة من أبنائه هم: عبد الله وسيقطع طريق باكل، والحسين وسيتولى قطع طريق ماتام، وأحمد محمود الذي سيعهد إليه بقطع طريق كيهيدي، وأحمد ديه الذي سيقوم بقطع طريق سالدي".

وبالإضافة إلى احتمال نشوب هذه الحرب الداخلية، فإن الفرنسيين كانوا يعولون أيضا على احتمال وقوف مجموعات محلية أخرى في وجه بكار، نظرا لما قد يمثله مثل هذا التحرك العسكري من تهديد لمصالحهم التجارية.

ولكن، ما فات الفرنسيين و"مبعوثهم" هو أن معظم الدلائل المتوفرة وكذلك طبيعة الموقف التعبوي، وحتى الأسلوب الذي كان من المقرر أن تتم به العملية المذكورة، كلها مؤشرات تدل على أن الخطة تم إعدادها لمواجهة احتمال اجتياح عسكري فرنسي مفاجئ للأراضي الموريتانية، حيث سيتم تفعيل هذه الخطة على الفور من خلال قطع الطرق التجارية الصحراوية، واحتماليا السيطرة السريعة والمتزامنة على هذه المراكز، التي تشكل حينها أهم المنافذ النهرية التي يمكن أن يتم من خلالها عبور الوحدات العسكرية، وهو ما سيمكن بدون شك من وقف أو تعطيل التوغل الفرنسي لمدة من الزمن، ستكون كافية لإعداد مقاومة منظمة وفعالة.

قد لا يكون سد هذه المنافذ النهرية كافيا لقطع طريق العبور على الوحدات العسكرية الاستعمارية، إذ سيظل بإمكانهم دوما التوغل من خلال المنافذ الغربية في إقليم الترارزه الذي تمت السيطرة عليه مؤخرا، وهو ما حصل بالفعل سنة 1902 مع دخول بعثة تگانت ـ آدرار. 

ولكن مع ذلك، فإن أي وجود معاد أو غير متعاون في هذه المنافذ الشرقية سوف يشكل شوكة في خاصرة الفرنسيين، وسيمثل تهديدا جديا لخطوط الإمداد والاتصال ما بين الوحدات العسكرية على الميدان ومراكز القيادة في سين ـ لوي Saint-Louis. 

غير أن التساؤل الذي يطرح نفسه، ولربما ظل كذلك إلى الأبد هو لماذا لم يتم تنفيذ هذه الخطة العسكرية الجريئة والثورية بمقاييس ذلك العصر، عندما بدأ كوبولانيتوغله "السلمي" سنة 1902، وهل إن معطيات تعبوية أخرى دفعت بكار إلى العدول عن خطته..!!؟؟

سوف يبقى السر وراء عدم تنفيذ هذه الخطة واحدا من الألغاز التي اكتنفت حقبة احتلال الأقاليم الموريتانية، خاصة وأن تنفيذها كان سيؤثر بشكل حاسم على مسار الأحداث العسكرية اللاحقة في تگانت والمنطقة بأسرها.

 

 

 

 

 

أهم المراجع والمصادر

 

- محمد المختار ولد السعد: إمارة الترازه وعلاقاتها التجارية والسياسية مع الفرسيين من 1703 إلى 1860، أطروحة دكتوراه في التاريخ، جامعة تونس الأولى، 2000، ج. 3 

- محمد عبد الرحمن ولد عمار، التغلغل الاستعماري في موريتانيا من القرن التاسع عشر حتى سنة 1934م، مطبعة الدستور 2008

- محمدو بن محمذن- المجتمع البيضاني في القرن التاسع عشر (قراءة في الرحلات الاستكشافية الفرنسية)- منشورات معهد الدراسات الافريقية- الطبعة الأولى 2001

- وثائق من التاريخ الموريتاني (نصوص غير منشورة)، ترجمة وتحقيق وتعليق د.محمدو بن محمذن، منشورات جامعة نواكشوط 2000

- التوغل في موريتانيا، اكتشافات.. استكشافات... غزو...، ترجمة محمد بن حمينا، دار الضياء للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى 2007

- Pierre AMILHAT ـ PETITE CHRONIQUE DES ID OU AICH

- الخليل النحوي- بلاد شنقيط: المنارة والرباط- تونس-1987

- رائد جيلييه: التوغل في موريتانيا، اكتشافات.. استكشافات... غزو...، ترجمة محمد بن حمينا، دار الضياء للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى 2007 

- النقيب غاستون دوفور، تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا ق 17ـ1920ـ تعريب وتعليق المقدم محمد المختار ولد محمد ولد بيَه، مكتبة القرنين 15/21 للنشر والتوزيع، نواكشوط ـ موريتانيا

جمعة, 24/10/2025 - 16:14

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك