تحولات أدوات القوة وإعادة تشكيل النظام الدولي

تحولات أدوات القوة وإعادة تشكيل النظام الدولي: من البارود إلى الذكاء الاصطناعي 

لقد كان تاريخ النظام الدولي، منذ فجر التجمعات البشرية المنظمة وحتى يومنا هذا، وثيق الصلة بالتطورات التي تطرأ على أدوات القوة المتاحة للدول والجماعات. لم تكن القوة يومًا مفهومًا أحادي البعد يقتصر على القدرات العسكرية الصلبة، بل شملت على الدوام القدرة على حشد الموارد الاقتصادية، وتطوير التقنيات المبتكرة، وتوظيف هذه الأدوات بفعالية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. وفي العصر الحديث، اتسع نطاق أدوات القوة ليشمل الإمكانيات المعرفية، والبنى التحتية الرقمية، والقدرة على التأثير في الرأي العام العالمي، والتي أصبحت تشكل اليوم العمق الاستراتيجي للدول في عالم متزايد الترابط والتعقيد. ومع كل قفزة نوعية في عالم التقنية، يشهد النظام الدولي حتمًا عملية إعادة توزيع للقوة والنفوذ بين اللاعبين الرئيسيين، وينبثق عنه نظام جديد يستند إلى معايير تفوق مستحدثة، وقواعد لعبة متغيرة تتطلب فهمًا معمقًا للتحديات والفرص الناشئة.

 

أولًا: القوة في التاريخ – من البارود إلى النووي: تحولات جذرية في موازين القوى 

 

شهدت بدايات العصر الحديث تحولات عميقة في موازين القوى العالمية، وكان من أبرز مظاهرها الانتشار الواسع لاستخدام البارودوالأسلحة النارية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. لقد أحدث هذا الابتكار العسكري ثورة حقيقية في فنون الحرب، وقلب الموازين التقليدية للقوى لصالح الدول التي امتلكت القدرة على تصنيع هذه الأسلحة وتطويرها وتوظيفها بفعالية في حروبها وحملاتها الاستعمارية. فقد مكنت الأسلحة النارية الجيوش من إسقاط القوة النارية عن بعد، وتجاوز التحصينات التقليدية، وتحقيق تفوق حاسم في المعارك البرية والبحرية على حد سواء.

 

صعود القوى البحرية وتأثير البارود: برزت قوى بحرية صاعدة مثل إسبانيا والبرتغال في طليعة المستفيدين من هذه التقنية العسكرية الجديدة. فقد مكنتهم أساطيلهم المجهزة بالمدفعية من فرض سيطرتهم على طرق التجارة البحرية العالمية الحيوية، واكتشاف واستعمار أراضٍ شاسعة في العالم الجديد وآسيا وأفريقيا. استندت قوتهم إلى القدرة على إسقاط القوة النارية بكفاءة عالية، وتحقيق التفوق العسكري في المعارك البحرية التي كانت حاسمة للسيطرة على الممرات المائية الاستراتيجية، وكذلك في العمليات البرية التي كانت ضرورية لإخضاع السكان الأصليين وتأمين المستعمرات. 

 

الثورة الصناعية وتغيير مركز الثقل الدولي: لم تدم الهيمنة الإيبيرية طويلًا، إذ سرعان ما انتقل مركز الثقل الدولي إلى بريطانيا وفرنسا مع انطلاق الثورة الصناعية الأولى في أواخر القرن الثامن عشر والتاسع عشر. أدت التطورات الهائلة في مجالات الصناعة، والتعدين، والنقل (خاصة السفن البخارية والسكك الحديدية)، وأنظمة التسليح إلى تمكين هذه الدول من بناء جيوش وأساطيل أكثر قوة وتطورًا من الناحية التقنية واللوجستية. كما ساهمت القدرة على الإنتاج الصناعي الضخم في دعم جهودها الحربية وتوسيع نفوذها الاستعماري بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى تشكيل نظام دولي تهيمن عليه القوى الأوروبية الصناعية، وتنافست فيما بينها على اقتسام مناطق النفوذ والموارد في مختلف أنحاء العالم. 

 

العصر النووي والقطبية الثنائية تحول في طبيعة القوة:جاء القرن العشرون ليحمل معه تحولًا جذريًا آخر في طبيعة القوة، تمثل في ظهور الثورة النووية. كان استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي في هيروشيما وناغازاكي عام 1945 بمثابة إعلان عن حقبة جديدة تمامًا في تاريخ الصراع الدولي. لقد غيرت الأسلحة النووية قواعد اللعبة بشكل كامل، حيث أوجدت تهديدًا وجوديًا للبشرية جمعاء، وأدت إلى نشوء نظام دولي ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب الباردة التي استمرت لعقود.

 

استند هذا النظام إلى نظرية الردع المتبادل، وهي عقيدة استراتيجية تقوم على فكرة أن استخدام أي من القوتين العظمتين للأسلحة النووية سيؤدي حتمًا إلى تدمير الطرفين بشكل مؤكد، وبالتالي فإن هذا التهديد المتبادل بالدمار الشامل يعمل كرادع قوي يمنع الانزلاق إلى حرب نووية مباشرة بينهما. لقد شكلت هذه النظرية الإطار الأمني للنظام الدولي لعقود طويلة، وحددت طبيعة التحالفات والصراعات الإقليمية والدولية، حيث كانت القوتان العظمتان تتنافسان على النفوذ في مناطق مختلفة من العالم دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة. 

 

ثانيًا: ثورة المعلومات وبروز الأحادية القطبية: صعود القوة الرقمية والمعلوماتية 

 

مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991، دخل النظام الدولي مرحلة جديدة اتسمت ببروز الأحادية القطبيةبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. لكن اللافت والمميز في هذه المرحلة أن التفوق الأمريكي لم يعد يعتمد بشكل حصري على القوة العسكرية التقليدية الضخمة، بل أصبح يستند بشكل متزايد إلى التفوق الرقمي والمعلوماتي الذي حققته الولايات المتحدة في العقود الأخيرة من القرن العشرين.

 

الهيمنة الرقمية والمعلوماتية كأداة قوة: بفضل ريادتها في ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، تمكنت الولايات المتحدة من فرض نموذجها الثقافي والسياسي والاقتصادي على نطاق عالمي واسع. لقد سخرت بنيتها التحتية الرقمية العملاقة، وشبكات الإنترنت التي نشأت وتطورت في أراضيها، ومنصات الإعلام العالمية التي تسيطر عليها شركاتها، وشركات التكنولوجيا العملاقة التي أحدثت تحولًا في طريقة تواصل الناس وعملهم واستهلاكهم للمعلومات، لتعزيز نفوذها وقوتها الناعمة وقدرتها على التأثير في الأحداث العالمية. 

 

التفوق المؤسسي وتشكيل النظام العالمي: رافق هذا التفوق التكنولوجي تفوق مؤسسي في صياغة قواعد الحوكمة الدولية. تمكنت الولايات المتحدة من لعب دور محوري في تأسيس وتوجيه مؤسسات التمويل العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومنظمات الأمن الجماعي مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونشر مفاهيم الاقتصاد الليبرالي والسوق المفتوحة كإطار عالمي للتجارة والعلاقات الاقتصادية، مما عزز من نفوذها وقدرتها على تشكيل النظام الدولي وفقًا لمصالحها وقيمها. 

 

ثالثًا: الذكاء الاصطناعي وإعادة صياغة القوة: نحو نظام دولي تكنولوجي جديد 

 

اليوم، ومع بزوغ فجر الثورة الصناعية الرابعة، يبدو أن أدوات ممارسة القوة تشهد مرة أخرى تحولًا بنيويًا عميقًا وربما أكثر جذرية من التحولات السابقة. تبرز تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI) ،والحوسبة الكمية، والبيانات الضخمة، والطائرات دون طيار المتقدمة، والأنظمة الذاتية التشغيل، والأمن السيبراني، كأدوات قوة جديدة تهدد بتغيير موازين القوى القائمة وإعادة تعريف مفاهيم السيادة، والردع، والأمن القومي في القرن الحادي والعشرين.

 

سباق التسلح التكنولوجي الجديد في عصر الذكاء الاصطناعي: أدركت القوى الكبرى الأهمية الاستراتيجية القصوى للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة في المجالات العسكرية والمدنية والاقتصادية. فقد أطلقت الصين في السنوات الأخيرة مشاريع استراتيجية طموحة مثل "صنع في الصين 2025" و "الخطة الوطنية للذكاء الاصطناعي 2030"، بهدف واضح وطموح وهو تصدر العالم في هذه المجالات الحيوية التي يُنظر إليها على أنها مفتاح التفوق الاستراتيجي في المستقبل القريب. وتؤكد تقارير أمريكية رسمية صادرة عن وزارة الدفاع (البنتاغون) أن بكين أصبحت منافسًا جديًا لواشنطن في ميدان الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته العسكرية والمدنية، مشيرة إلى استثماراتها الهائلة في هذا المجال وسعيها الحثيث لتحقيق تفوق تكنولوجي يمكنها من تحدي الهيمنة الأمريكية القائمة. 

 

تأثير الذكاء الاصطناعي على ساحة المعركة الحديثة: تُظهر الحرب الروسية الأوكرانية الجارية منذ عام 2022 تحولًا عسكريًا نوعيًا متسارعًا، حيث تلعب الطائرات بدون طيار بأنواعها المختلفة (الاستطلاعية والهجومية)، والهجمات السيبرانية المتطورة التي تستهدف البنية التحتية الحيوية وأنظمة القيادة والسيطرة، وحملات التضليل الإعلامي المعقدة المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل الاتجاهات وتوجيه الرسائل، دورًا متزايد الأهمية في تحديد مسار المعارك وتوجيه الرأي العام على المستويين المحلي والدولي. كما أضحت شبكات البيانات والبنية التحتية الرقمية أهدافًا مركزية في هذا النزاع، مما يؤشر بوضوح إلى تغير عميق في معادلة القوة المعاصرة، حيث لم يعد التدمير المادي التقليدي هو الهدف الوحيد، بل تعطيل قدرة الخصم على الاتصال وتبادل المعلومات والتحكم في أنظمته الحيوية.

 

إعادة تعريف مفاهيم السيادة والأمن في عصر الذكاء الاصطناعي: يثير صعود الذكاء الاصطناعي تساؤلات جوهرية وعميقة حول مفاهيم السيادة والأمن القومي التي سادت في العصور السابقة. ففي عالم يعتمد بشكل متزايد على البيانات والخوارزميات المعقدة، تصبح السيطرة على تدفق المعلومات وحماية البنية التحتية الرقمية الحيوية من الهجمات السيبرانية عناصر أساسية للحفاظ على السيادة الوطنية والقدرة على اتخاذ القرارات المستقلة. كما أن القدرة على تطوير ونشر أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة، سواء في المجال العسكري لتعزيز القدرات الدفاعية والهجومية، أو في المجال المدني لدفع النمو الاقتصادي والابتكار، تتحول إلى عامل حاسم في تحديد القدرة التنافسية للدول ونفوذها الدولي في النظام العالمي المتغير.

 

خاتمة: نحو نظام دولي تكنولوجي متحول ومعقد 

 

تشير المؤشرات المتراكمة بوضوح إلى أننا بصدد نشوء نظام دولي جديد لا تحكمه فقط اعتبارات الجغرافيا السياسية التقليدية أو التفوق العسكري الكلاسيكي القائم على حجم الجيوش والأسلحة التقليدية، بل تهيمن عليه بشكل متزايد المعرفة الرقمية، والخوارزميات المتقدمة التي تحلل البيانات الضخمة، والقدرة على التحكم في تدفقات المعلومات والبيانات وتأمينها. وفي هذا السياق، تعود التعددية القطبية إلى الواجهة، ولكن ليس بالضرورة بمعناها الكلاسيكي القائم على توازن القوى العسكرية بين عدد محدود من الدول العظمى، بل ضمن فضاء رقمي أكثر سيولة وتعقيدًا، حيث تتنافس قوى متعددة (دول، شركات تكنولوجية عملاقة، منظمات غير حكومية) على النفوذ في مجالات التكنولوجيا والبيانات والمعلومات، مما يخلق شبكة معقدة من العلاقات والتفاعلات.

 

إن عملية إعادة تشكيل النظام الدولي في عصر الذكاء الاصطناعي لا تعني فقط تغير مواقع القوى الكبرى وصعود لاعبين جدد يمتلكون القدرة التكنولوجية، بل تعني أيضًا تغير قواعد اللعبة نفسها. فمن يمتلك القدرة على تطوير وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، وتأمين بنيته التحتية الرقمية الحيوية من التهديدات المتزايدة، والتحكم في تدفقات البيانات الهائلة وتحليلها بكفاءة، سيحظى بميزة استراتيجية هائلة ونفوذ متزايد في النظام الدولي القادم. وهذا التحول العميق يتطلب من الدول إعادة تعريف استراتيجياتها ومفاهيم أمنها القومي بشكل جذري، بما يتلاءم مع منطق القوة الجديد الذي تصوغهالتكنولوجيا المتقدمة لا الجغرافيا وحدها.

 

المصادر:

• د. إيهاب خليفة رئيس وحدة التطورات التكنولوجية - مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة  المقال منشور ضمن العدد رقم 105 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، مايو 2023. للاطلاع على العدد كاملًا:

 https://acpss.ahram.org.eg/Esdarat/MalafMasry/105/files/downloads/Mallf-105-May-Final.pdf 

 

• د. إيهاب خليفة: هل تصبح الروبوتات مجلس حكماء العالم؟ كتاب الذكاء الاصطناعي يساهم في إعادة تشكيل العلاقات الدوليةمنشور الأحد 2024/01/14 على الموقع العرب https://alarab.co.uk/

 

• ياسر نايف قطيشات: إدارة العلاقات الدولية في عصر الذكاء الاصطناعي (من الجيوسياسي إلى التكنوسياسي) بحث منشور على موقع https://trendsresearch.org/

 

• المركز الديمقراطى العربى الحروب في عصر الذكاء الاصطناعي وأثرها على سباق التسلح الدولي 2. يوليو 2024

https://www.democraticac.de/?p=98536&utm_source=chatgpt.com

 

•  وزارة الدفاع الأمريكية. (2019). ملخص استراتيجية الذكاء الاصطناعي لوزارة الدفاع. [https://media.defense.gov/2019/Feb/12/2002088963/-1/-1/1/SUMMARY-OF-DOD-...(https://media.defense.gov/2019/Feb/12/2002088963/-1/-1/1/SUMMARY-OF-DOD-AI-STRATEGY.PDF)

 

 

المقدم سعدبوه الشيخ المحفوظ الحبيب

مدير نظم المعلومات بوزارة الدفاع وشؤون المتقاعدين وأولاد الشهداء

جمعة, 24/10/2025 - 16:01

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك