الدولة والقبيلة

عرفت المجتمعات البشرية، فى مسيرتها عبر العصور تطورا مطردا فى طبيعة الأنظمة الاجتماعية وأشكال الحكم السياسية، انتقلت خلالها بسلاسة أحيانا، وأحيانا أخرى من طور لآخر، متدرجة بالكثير من التفاوت، من المرحلة العشائرية وصولا الى النظام الديمقراطى الذى يعتبر اليوم قمة ما وصلت إليه الحضارة الانسانية من حيث الحكم والتنظيم.

ولئن اندثرت كل الأشكال القديمة لتفسح المجال للجديد، فإن النظام القبلي ونظرا لعدة عوامل، قاوم بقوة من أجل البقاء وتمكن من ذلك بنجاح أحيانا، ولا يزال حتى اليوم إلى جانب الدولة الحديثة نظاما حاضرا بقوة فى المجتمعات، ينظم الحياة وينازع الدولة السلطة وأسباب السيطرة.

فالدولة بصفتها شخصية معنوية موجودة، تمارس على أرضها بسيادة تسيير الأشخاص والممتلكات، تجد نفسها فى مواجهة مع القبيلة، بوصفها مجموعة أفراد منسجمين اجتماعيا، يمارسون نشاطات وأنماط حياة مشتركة فى ظل سلطان واحد، وطبيعة العلاقات التي تربط هذين الكيانين وتنظم موازين القوى بينهما علاقة مد وجزر، هي فى الواقع انعكاس صادق لمدى نضج الشعوب وتعبير بليغ عن إرادة سلطات المرحلة.

وتتخذ هذه العلاقة غالبا منحى تجاذبيا فريدا يتسم طورا بالمهادنة، وأحيانا أخرى يأخذ شكل صراع مميت من أجل البقاء والسيطرة، غير أنه صراع غير متكافئ الأطراف، فالقبيلة تنخر البناء الحكومي عن طريق اختراق مراكز القرار فيه، وتحويل السادة التقليديين فاعلين فى المجال السياسى والاجتماعى، معززة بذلك سيطرتها على الدولة، والدولة، لدعم سلطتها تدفع للأمام بمجموعات هامشية تدين لها بكل شيء لتحلها محل القوى النافذة فى المجتمع، معيدة بذلك توزيع الأدوار لصالحها، ولكن فى كلتا الحالتين تظل ضرورات الحياة والبحث عن الأحلاف والولاءات دافعا للكل مهما كان موقعه، إلى تجذير انتمائه العشائري، ممكنا بذلك القبيلة من تعزيز نفوذها على حساب الدولة.

ويظل هذا الظهور القوي للقبيلة على الواجهة، ودرجة الاستقلالية الكبيرة التى تتمتع بها، مصدرا لانتقاص سلطة الدولة ومشاركة لها فى السيادة، وهو بالطبع عنصر مسرع لتحويل الدولة الى آلة قبلية أو إعادة بعث جديدة للعشائرية على حساب المجتمع المدني. وهذا البروز القوي للقبيلة على الساحة العامة، ودرجة الاستقلالية الكبيرة التي تتمتع فى سيادتها وسعيا لتكريس السيطرة العشائرية عليها.

ولتلافي ذلك والحد من هذا التداخل القوي بين الدولة والقبيلة يصبح من الضروري التصدي للروح القبلية التى مازالت حاضرة بقوة فى المجتمع عن طريق حرمانها من ميادين نشاطاتها التقليدية التى تقوم عليها (الحالة العائلية،الأمن ،التضامن الاجتماعي ،المواساة والمعاقلة )،حارمة الدولة بذلك من ممارسة بعض صلاحياتها، ومعززة من خلال ذلك نفوذها على الفرد إن لم يكن هذا التفرد بالمصالح جزءا من صفقة غير معلنة يجد فيها كلا الطرفين بغيته : الدولة بتخليها عن هذه النشاطات تتهرب من تحمل أعباء مالية ثقيلة والقبيلة باستغلالها لهذه الخدمات تكسب ود وولاء المواطنين.

ومن هنا يتبين أن إضعاف سلطة القبيلة يمر بالضرورة بإعادة الاعتبار للدولة، ولا يتم ذلك دون تدخل قوي من المؤسسات العامة لزعزعة الهياكل التقليدية ومراجعة التقسيم الإدارى ودفع السكان لمزيد من التقري والتمازج، ومن الأساسي أن يواكب ذلك اتخاذ إجراءات ثقافية واقتصادية واجتماعية تعزز هذا المسار الحرج والمحفوف بالمخاطر، فأي عملية تحديث مرتجلة ومفاجئة يمكن أن تخرج عن السيطرة وتؤدي إلى نتيجة عكسية فتعم الفوضى والتسيب.

وبالمقابل كل حد من صلاحيات الدولة أو مشاركة لها فى السيادة يمكن أن يؤدي إلى ظهور أشكال تنظيمية بديلة، أكثر خطورة وأشد ضررا (مافيا،عصابات،لوبيات ...الخ)ولذا يجب العمل بحذر لصيانة وتعزيز سلطة الدولة، من خلال صقل الثقافة المدنية الجمهورية وتعميم الممارسة الديمقراطية السليمة والحد من النفوذ العشائري عن طريق تحسين الظروف المعيشية للسكان، وضمان حريتهم واستقلالهم وتشجيع انتمائهم لأطر جمعوية حديثة (أحزاب ،نوادي ،وداديات،نقابات...)تؤسس التقارب على أساس فكري، يعتبر القانون حكما ويعتمد التعددية منهجا والاختلاف حقا ويقبل الأكثرية مرجعا.


مقدم محمد الأمين ولد عارف

التاريخ 2007/10/01

خميس, 02/08/2012 - 14:00

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك