الشاي ومسار تغلغله التاريخي في الواقع الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني

قد يخيل إلى الناظر غير المتبصر لواقع حضور الشاي فى النظام الغذائي الموريتاني، وفى الواقع الاجتماعي الراهن،أنه جزء من الموروث الحضاري العريق لهذا المجتمع، فى حين أنه لم يعرفه فى نطاقا ضيق جدًا قبل أواسط القرن التاسع عشر، ولم يبدأ انتشاره العمودي والأفقي فيه قبل العقود الأولى من القرن العشرين. ويبدو أن فترة مقاومته والطعن فى مشروعيته لم تدم طويلا وأنه سرعان ما اكتسب مشروعيته الاجتماعية وفرض وجوده كمشروب وطني من الطراز الأول له مكانته فى المخيلة الاجتماعية العامة.

وعلى الرغم من أن الشاي يعتبر المشروب الوطني بامتياز فى موريتانيا اليوم، إلا أنه مع ذلك لم يحظ حتى الآن بدراسة جادة للكشف عن مراحل تغلغله في الواقع الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني، وأشكال تمثلهالاجتماعي، رغم ما أثاره من مساجلات فقهية حامية الوطيس وإنتاج أدبي مستفيض فى أوائل القرن الماضي. وإذا كان يتعين على المؤرخين وعلماء الاجتماع الصاعدين القيام بتلك المهمة، فإننا سنكتفى هنا بإعطاء فكرة عامة عن الشاي ومسار انتشاره العام فى المنطقة، وما لقيه من حفاوة واحتضان شعبي جعله يستحوذ خلال فترة وجيزة على المنطقة ويصبح مشروبها الوطني بامتياز.

وسنكتفى هنا بإعطاء لمحة موجزة عن نشأة "أَتَايْ" ومسار انتشاره فى المنطقة، محيلين من يريد فضل اطلاع على ما أثاره حضوره من نوازل فقهية مستفيضة وأدب ثر إلى كتابنا "نوازل الشاي في موريتانيا، أو كيف تعامل الفقهاء الشناقطة مع الوافد الجديد". ولنمحض الحديث الآن لنشأة الشاي ومسار انتشاره العام في المنطقة.

     أَتَـايْ أو (الشَّايْ): تسمية تشتق من كلمة "تشا" الصينية التى تطلق على شجيرة وعلى أوراقها وعلى المشروب الذي يصنع من تلك الأوراق. واسمه العلمي: "كاميليا سنينسيس" Camellia sinensis أو "تيا سنينسيس" Thea sinensis. وقد اختلفت تسمية الشاي عبر العالم تبعا لاختلاف نطقها داخل الصين نفسها. فالرسم الشائع في معظم الآراضي الصينية يُنطق «تشا»، أما في بعض المناطق الساحلية فينطق «تا» (tay, te). وانتقلت تانك التسميتان عبر مسالك التجارة الدولية حيث سادت طريقة النطق الأولى في روسيا، ووسط آسيا، والهند، وفارس، التي وصل إليها الشاي عبر المسالك البرية، بينما سادت طريقة النطق الثانية في البلدان التى وصل إليها عبر البحار؛ فسمي في إنجلترا (tea)، وفي فرنسا (thé)، وفي إسبانيا (te)، وعن تلك التسميات تولدت تسميتا "تاي" و "أتاي" في المغرب وموريتانيا متأثرتين بالبنية اللهجية في كلا البلدين.

وتعتبر منطقة "آسام" الجبلية الفاصلة بين الصين والهند الموطن الأصلي، للشاي قبل أن تتوسع زراعته في مناطق واسعة من الصين واليابان والهند وسيريلانكا وإندنوسيا. وقد عرفه الصينيون منذ ما قبل التاريخ بحكم خصائصه الطبية، وإن لم يتناولوه كمشروب يومي إلا ابتداء من القرن الخامس الميلادي، وعرفه الكوريون واليابانيون بعد ذلك بقرون. وقد استخدم في البداية كبديل عن الخمر وعلاج لظاهرة الإدمان، ولعبت البوذية دورًا كبيرًا في انتشار شرب الشاي في الصين، كما فعل مذهب "الزان" في اليابان الذي أدرج الشاي ضمن طقوسه الدينية. وفي حديث البيروني (ت. 440هـ) عن الشاي (چاه)، أكد على استخدام الصينيين له في مكافحة الإدمان، فقال: «إنهينفع لدفع مضرة الشراب. ولهذا يحمل إلى بلاد التيبت، إذ من عادة سكان هذا البلد إدمان شرب الخمر وليس لديهم دواء أنفع لدفع عادية السُّكْرِ منه».

ولذا قام الرهبان، في الحالتين الصينية واليابانية، باستخدام الشاي في محاربة الخمر، والحث على تناوله كمنبه يساعد على العبادة كما فعل المتصوفة المسلمون مع القهوة خلال انتشارها في اليمن في القرن الخامس عشر، حيث أقبلوا عليها كمنبه يعين على السهر للعبادة وقراءة الأوراد. وعلى أية حال، فإن الشاي قد اقترن في ثقافة الشرق بمضامين روحية ودينية وطريقة في التعامل مع الطبيعة.

أما أوربا فلم تعرف الشاي إلا فى ملتقى القرنين السادس عشر والسابع عشر على أيدى البرتغاليين والهولنديين والإنجليز. وكانت أول شحنة منه قد وصلت إلى آمستيردام في حوالي 1610. وذكر الشاي لأول مرة بفرنسا في 1635- 1636، ووصل إنجلترا عن طريق هولندا وروَّجه أصحابُ المقاهي في لندن. وبدأت شركة الهند الشرقية استيراده في 1669. غير أن استهلاكه لم يصبح ذا بال في أوربا إلا بعد عقد من الزمن 1720- 1730 حيث بدأ استجلابه مباشرة من الصين بدل مركز باتافيا Bataviaالهلولندي، إذ أخذ الإنجليز يتفوقون على الهولنديين في استيراده، وبلغت واردات أوربا منه 7000 طن في 1766، وتضاعف استيرادها منه على مدى قرن من الزمن (من عام 1693 إلى 1793) 400 مرة. وكان لفوائده الصحية (علاج نزلات البرد والإسقربوط والحميات)، ودوره في علاج ظاهرة الإدمان الكحولي التي استبدت بالمجتمع اللندني في عصر الملك جورج الثاني، دور مهم في انتشار استخدام هذا المشروب الجديد في إنجلترا ومستعمراتها الأمريكية إلى حد أن السياسة الضريبية والجمركية الصارمة التيانتهجتها الحكومة البريطانية تجاهه قد اتخـذتها تلك المستعمرات ذريعة للثورة. ولم تفلح أوربا في زراعة أشجار الشاي إلا في 1827 في "جاوه" وبعيد 1877 في سيلان بعد إبادة ما كان بها من أشجار البن.

وكانت الصين وما تزال أكبر منتج ومستهلك للشاي في العالم لا سيما وأنه كان يلعب فيها «دور نبات عالي الحضارة على نفس مستوى الدور الذى لعبته الكرمة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط»، حسب تعبير بروديل Braudel. وتساءل ابْرُودِيلْ عن النجاح الملفت للنظر الذى عرفه الشاي في البلدان التى لا تعرف الكروم (شمال أوربا، وروسيا، وبلاد الإسلام)، وعن إمكانية الخروج باستنتاج مؤداه «أن نباتات الحضارة يستأثر الواحد منها بمنطـقة ويستبعد ما سواه...».

وفي أوائل القرن 18، دخل الشاي إلى البلاط المغربي بكميات محدودة جدًا عن طريق القناصل الأوربيين، حيث كان ضمن الهدايا التي اعتاد هؤلاء تقديمها للسلطان وممثليه المحليين، وظل طيلة ذلك القرن مقصورًا على البلاط وأفراد المخزن ومن يرتبط بهم من علية القوم، كبضاعةباهظة الثمن وسلعة من سلع الترف، وقد استخدم في البداية كدواء قبل أن يستعمل كشراب ترفيهي مرغوب.

وكان الإنجليز أول من أدخل الشاي إلى المغرب عن طريق ما كانوا يقدمون من هدايا للسلطان وأعوانه من المخزن، ثم عن طريق التجارة عبر ميناءي طنجة والصويرة Mogadorالذي كان أول ميناء مغربي في استيراد الشاي على علاقة مباشرة مع لندن ومرسيليا. وظل الشاي حتى نهاية القرن 18 مادة كمالية نادرة وباهظة الثمن يقتصر استعمالها على الأوساط المخزنية، وسيمكن انخفاض أسعاره في نهاية ذلك القرن من استهلاك الأوساط الميسورة له حيث ستتضاعف وارداتـه ست مرات تقريبا ما بين 1830- 1840وينخفض ثمنه بحوالي الثلث. وفي النصف الأول من القرن 19 سينتشر في المدن، ليصل إلى البوادي المرتبطة بها ما بين سبعينات وثمانينيات ذلك القرن، ويتسع استهلاكه على نطاق واسع في عموم البوادي والأرياف ما بين 1880-1892.

وقد جاء هذا التوسع الكبير في استهلاك الشاي على الساحة المغربية إثر انخفاض أسعاره جراء إنهاء احتكار شركة الهند الشرقية لتجارته، وتداعيات حرب القرم (1853-1856) على التجارة البريطانية في شرق أوروبا، وظهور السفن البخارية، وفتح قناة السويس (1869).

وفي سياق ترجمته للسلطان سيدي محمد بن عبد الله (ت.1204هـ/1790م)، يقدم عبد الكبير الفاسي (ت. 1296هـ/1899م) رواية لا تخلو من دقة عن بدايات ظهور الشاي بالمغرب والغايات الأولى من استعماله التي تتقاطع مع ما رأيناه عند الصينيين واليابانيين، فيقول: «وفي أيامه أظهر الله بالمغرب عشبة الأتاي المشروب بسائر أقطاره، وهو من خصائص صاحب الترجمة وآثاره. ولم يزل يبذل المجهود في إشاعته وتكثيره وإذاعته، إطفاء لما عمت به البلوى من شرب الخمور، التي هي أم الخبائث وأقبح الأمور، حتى نسخ الله تلك الظلمة بهذا الضياء، وأبدل الله ذلك الحرام بهذا الحلال الذي شربه العلماء والأولياء... ويقال إن أول من شربه بالمغرب عم السلطان المذكور، مولانا زيدان بن مولانا إسماعيل، كان خليفة والده المذكور بثغر آسفي، وكان شريبا حتى أكسبه الشرب ألما عجز الأطباء عن معالجته. فجيئ بحكيم نصراني، فأمعن النظر فيه فقال: لا بد من تخليه عن الشرب. فلم يجد إليه سبيلًا، فأتاه بشرب الأتاي، ولم يزل يحسنه إياه حتى استغنى به عن الشرب، فعوفي بقدرة الله... فلما لقي والده المذكور، قص عليه الخبر وأراه إياه فشربه، ثم جيء به لولده مولانا عبد الله... وفي أيام صاحب الترجمة شاع وذاع، وعم جميع المجالس والبقاع. ولم يزل في زيادة الظهور، والولع به في البوادي والحواضر على ترادف الأعوام والشهور...».

ويعزز هذه الرواية ما رواه الجراح الإنجليزي وليام لامبريير Lemprière William خلال زيارته لتاردانت في 1789م، والقنصل الإسباني في العرائش سنة 1880، وعلى باي العباسي الذين ذهبوا جميعهم إلى أن انتشار استعمال الشاي بالمغرب كان في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله.

وعلى الرغم من الحضور الأوربي المبكر على السواحل الموريتانية وانتظام العلاقات التجارية مع هؤلاء منذ القرن 17 على الأقل، فإننا لم نجد في مواد التبادل ولا في مكونات الضرائب العرفية المقدمة للسلطات المحلية ذكرًا للشاي. كما أن الفرنسيين الذين احتكوا بالمنطقة وكتبوا عنها لم يذكروه قبل منتصف القرن 19. فلم يذكره ابريسوه Brisson، ولا سونيي Saugnier، ولا دراه Durand، أو لابي بوالا L’Abbé Boilat الذي قال في معرض حديثه عن أغذية البيضان سنة 1853: "إن شرابهم يقتصر على الماء أو اللبن". وهذا ما أكده بوريل Bourelle فى 1860 خلال زيارته لمنطقة البراكنة حيث أوضح أن شرابهم يقتصر نهارًا على المذق والحليب بالليل، ويحيي الرجال سمرهم بتعاطي الدخان على نطاق واسع.

أما رنى كايي René Caillié الذى جاب المنطقة في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، فلم يذكر الشاي إلا عند ما وصل إلى "جنّي" Jenné حيث قال في إطار تعداده لأنواع البضائع التي يتاجر بها بيضان "جنّي": «إن لديهم كذلك السكر الأبيض والشاي؛ إلا أنه لا يمكن لغير كبار الأثرياء استخدامه».

وحين وصل إلى جنوب المغرب في 1828 قال: «إن السكان الأكثر غنًى في تافلالت يتناولون في إفطارهم الصباحي الشاي والخبز وبعض حبات التين».

وحسب ما لدينا من معطيات، فإن الشاي قد ورد على المنطقة عبر قوافل التجارة عبر الصحراء من الشمال، ولا سيما من منطقتي توات وواد نون.

ويبدو أن فترة التوسع الكبرى في تجارة واستهلاك الشاي بالمغرب خلال القرن 19، هي بداية دخوله التدريجي إلى الأراضي الموريتانية، خاصة وأن تلك الفترة قد عرف فيها التبادل بين المنطقتين بعض الحيوية. وعلى أية حال، فقد أكدت التحريات الفرنسية بشأن إمكانية الاتجار مع تنبكتو، وجود الشاي بها في 1805، وكان ثمن رطله وأحد عشر رطلا ونصفا من السكر يتراوح بين 6 إلى 8 مثاقيل من الذهب.

وأكدت تلك المصادر الفرنسية وجوده في الأراضي الموريتانية في منتصف العقد الأول من القرن19، وشيوع استعماله فيها في دوائر ضيقة جدًا من خاصة القوم، وأنه ورد إليها من المغرب - كمادة وتقنية وأدوات - عبر قوافل التجارة الصحراوية المسيرة في الأساس من قبل مجموعات أبناء أبي السباع وتكنه وتجكانت.

ويشير بابه بن الشيخ سيديا (ت. 1342هـ/1924م) إلى الأصل المغربي للشاي في موريتانيا ويصف إحدى جلساته السمرية في أبياته الشهيرة فيقول (الطويل):

يقـيم لنا مـولاي واللـيل مقـمر

وأضـواء مصباح الزجـاجة تزهـرُ

وقد نسمت ريح الشمال على الرُّبَـا

نسـيما بأذيـال الـدجـى يتعـثر

كـؤوسا من الشاه الشهي شهـية

يطيـب لها لـيل التـمام فيقـصر

تخـير من تـجـار طنجة شاهـها

وخِيرَ لها مـن تلج وهـران سـكر

قواريـرها والـشـاه فـيـها يزينـها

وقـد زينتهُ جوهـر فـيه جـوهـر

تُعِينُ على الخـيرات من بـات قائـما

وتُسْعِـدُ في الأَسْمَارِ من بات يُسمِرُ

ولا غـرو إن طابت صـنائع ماجـد

كـريم فماء العود من حيث يعـصر

ويبدو من منطوق رحلة ولد اطوير الجنة إلى الحج ما بين 1829-1834 أنه وابنه سيدى محمد الصابر قد أَلِفَا الشاي وشرباه في أكثر من محطة من محطات سفرهما، وعادا إلى ودان بكمية منه وبأدوات إعداده.

وأكد «ليوبولد باني» في 1850 شيوعه في كل من اترارزةوآدرار. كما أكد هنري بارت H.Barth على وجوده بأقصى شرقي البلاد في الفترة نفسها، وأعطى معلومات دقيقة عـن تجارته ومستوى انتشاره في تلك المنطقة، فقد اشترى من إحدى قوافل تجكانت القادمة من توات أرطالا من السكر ونصف رطل من الشاي كان «بحاجة ماسة إليها ولا يمكن الحصول عليها عادة من هؤلاء الناس إلا في الجملة، أي في 12 رطلا من السكر مقابل رطل من الشاي لأنهما لا يشكلان، تقريبا، سوى بضاعة واحدة...». وأثناء زيارته للشيخ سيدي أحمد البكاي الكنتي، في 12 يناير 1854، وجده يتناول الشاي وعالجه به.

ويستخلص من روايته أن الشاي ما يزال وقتها باهظ الثمن ونادر الوجود في المنطقة رغم شيوع استخدامه، حيث يقول: «... يشكل الشاي مادة استهلاك كبير بالنسبة للعرب المتمركزين في تنبكتو وضواحيها، ويرغبون جدا في تناول فنجان شاي. ويمتلكون، إذا وسعهم الحال، أدوات كاملة لإعداد هذا الشراب الذى يشكل - إلى جانب السكر الذي هو المادة الرئيسية الثانية المستوردة هي الأخرى من الشمال - مادة استهلاك باهظة التكاليف بالنسبة للأهالي...».

ويستفاد من لامية الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدياالكبير (ت. 1285هـ/1869م) الوافرية التى ينافح فيها عن الشاي وحلية تعاطيه، حضورَ هذا الوافد الجديد فى وسطه المخصوص في أواسط القرن التاسع عشر، حيث عاد من رحلته الشهيرة إلى الساقية الحمراء بكمية من الشاي وأدوات إعداده، وأُعد مرارا في مجلسه واستساغه جلساؤه واستطابوه.

ويتأكد من رحلة الولاتي أن الشاي كان مستعملًا فى ولاته وتيشيت خلال العقد الأخير من القرن 19 وأنه من مستلزمات إكرام الضيف، إذ يذكر الولاتي أنه أثناء مقامه عند أهل الشريف المختار فى تيشيت سنة 1894 فى بداية رحلته إلى الحج، كان أبوبكر بن الشريف المختار يرسل إليه كثيرا من «القمح، والأرز، والشعير، والدهن، والأبزار، والسكر والأتاي...».

وعاد - هو الآخر- من تلك الرحلة بسبعة قوالب من السكر ورطلين من الشاي وصندوقا به أدوات صنعه، وأبرز مكانة الشاي في طرق إكرام السلطان عبد العزيز له فيمراكش وهو في طريق العودة، وعَدَّدَ أدوات صنعه حيث قال إن السلطان أنزلهم في وسط داره في «غرف ثلاث فى غاية الحسن، فرش لنا فيها الحنابل واللحف، ووضع لنا في الدار معنا بابورًا يطبخ فيه ماء الأتاي، وطبلة جيدة، وأربعة أكؤس، ومقرجا وبرادا، وصندوقا فيه السكر، وزنبيلا فيه الأتاي، وأخدمنا عاملا من عماله (...)، وصار الطعام يأتينا من عنده بكرة وعند الزوال، وبعد المغرب، ولا يأتينا من عنده إلا طعام في غاية الجودة، والعامل يصنع لنا الأتايبُكرة وعشيا، وكلما نفد السكر من الصندوق أو الأتاي من الزنبيل ذهب بهما عاملنا إلى وكيل الوزير، فيجعل فيها السكر والأتاي...».

ويبدو أن حضور الشاي على الساحة الموريتانية ظل محدودًا ومقصورًا على خاصة الخاصة حتى العقود الأولى من القرن العشرين حيث بدأ انتشاره الأفقي التدريجي، وكسب مشروعيته "الدينية"، وفرض وجوده كمشروب اجتماعي مرغوب.

فقد تحدث بلانشي P.Blanchet في 1900 عن انتشار عادة تقديم الشاي للضيوف، وقال إنه «لا يقل أهمية عن تقديم اللبن واللحم، بل إن بعض الضيوف يفضله على جميع أنواع المأكولات والمشروبات».

وأوضح صاحب النفحات الرندية سنة 1935 في حديثه عن العادات الغذائية في المنطقة أن أهلها «لم يكن لهم شراب معروف من قديم الزمان سوى اللبن خالصا وممزوجا، إذ لم يعرفوا نبيذا ولا سواه من الأشربة. فلما ظهر لهم أتاي صرفوا إلـيه عنايتهم بالكل وعكفوا عليه عكوف بنى إسرائيل على العجل. هذا هو الأغلب في حال أكثر أهل هذه النواحـي كلهم. وأما النادر من المترفين من أهل كل بلدK مثل الأكابر والأمراء والأغنياء فإنهم يستجلبون من كل بلد ما يحتاجون إليه من الأقوات وغيرها مما أمكنهم. وكل بحسب حاله في الجدة والإسراف والتقتير...».

وهذا ما أشار إليه ابن حامدٌ بأسلوبه الأدبي المتميز في «مقامة ذات الدخان والتَّاي» حين قال: «فبينا تُراوغها الكُمَاةُ، وتُعانقها في ليالٍ كَمْوِيَّاتٍ، وتتكمَّى رَبْعَ عزتها وتُباكي بيتَ عُرْوَتِهَا:

وإني لتعروني لذكراك روعةٌ

لها بين جلدي والعظامِ دبيبُ؛

إذْ طرقت من الصين تاجرةٌ يقال لها "شَاهِينْ"، ذات منصب عالٍ ومالٍ وجمالٍ، فجاءت بألوان الياسمينِ والوردِ، وأنواع طُرف الصين والهندِ، ففاح من السُّكَاكة عَرْفُهَا، واشتهر في العمائر ظَرْفُهَا، فأقبلوا إليها شعوبًا وقبائلَ، وادَّاركوا عندها تَوَالِيَ وأَوَائِلَ، وسخَّر الله لها أقوامًا، قعودًا وقيامًا، فخدمها عبدُهم وحُرُّهُمْ، وقام لها زيدُهم وعمرُهم، وأعطوها صَفْقَ اليَدِيِّ، وأعمروها طَرْقَ النَّديِّ، وأوقدوا لها الشَّمْعَ وشنفوا بأحاديثها السمعَ، وصافحوها بالأيمانِ، ولقَّمُوهَا بالبنانِ، ولَسَنُوها بالشِّفَاهِ، واستعذبوا لها المياهَ، وحَلَّوْهَا ما لم تُحَلَّ تاجةُ، ولم يدَعُوا لها حاجةً ولا داجةً... فأصبحت مستعمرةً في الدورِ، مُمَهَّدَةً لها القصورُ، مُحكَّمةً في السُّوقِ والوُسُوقِ، والجمالِ والنوقِ، قد فتلت عن طَابَهْ وُجُوهَ العِصابَهْ، فتركوها نَسْيًا مَنْسِيًا، ونبذوها وراءهم ظِهْرِيًّا...».

وتؤكد أبيات محمد الكرّامي بن مايابه (ت. 1339هـ/1921م) التالية انتشار "أتاي" وأدواته الأساس في عموم المنطقة في بدايات القرن العشرين:

مـثال هـذا "الأتا" شراب اتخذت

لـه الأفاضـل مثـل النفـع في الآسِ

مركـب من ثـلاث حلّـها قـمـر

من هـاهُـنا وإلى وَرَا "سجلـمـاسِ"

فـ"الحـوض" ذاع به في كل بادية

أربـابها سمُـحـاء دون حـراسِ

وفي "ولاتة" و"النعـمى" تـنـاولـه

بيـن الكـرام عـلى كـثر وإفـلاس

واستعملته كـذا "شنجيط" واتخـذت

له "تشـيت" جـهارًا دون تجـساس

واهتـز يمشي بـدور "الغرب" منعرجًا

"لفاسـه" وإلى ديار "مكـناس"

بل في "الحجاز" فشا و"مصر" معْ "يمن"

"هند" و"شام" وفي بلاد "أوطاس".

وعلى الرغم من المكانة الاستثنائية التي يحظى بها الشاي اليوم في المجتمع الموريتاني وما تولد عنه، منذ القرن الماضى، من مساجلات فقهية مستفيضة وإنتاج أدبي ثري، وما يستدعيه تجدد عوائد الشعوب الغذائية من عناية من قبل المؤرخين وعلماء الاجتماع؛ فإنه لم يحظ حتى الآن بأية دراسة جادة للكشف عن مراحل تغلغله في الواقع الاقتصادي والاجتماعي الموريتاني وأشكال تمثله الاجتماعي. وعسى أن تتحفَّز همم الباحثين الناشئين في هذا الصدد وأن يوفقوا سدِّ النقص الملاحظ على هذا الصعيد، والله ولي التوفيق.

خميس, 23/01/2025 - 15:49

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك