بعض مسارات تمويل التطرف العنيف
منذ القدم، كانت منطقة الساحل والصحراء معبرا للقوافل التجارية التي تنقل المنتجات من السودان (خاصة الذهب) إلى مدن المغرب العربي، وتزود كامل غرب إفريقيا بالملح والمنسوجات والمخطوطات والأسلحة... وطبقا للسياقات المختلفة، اتخذت هذه التبادلات أشكالا متنوعة؛ حيث كانت المعاملات التجارية غالبا ما تغطيها علاقات عنف مؤسسية إلى حد ما.
لم تتغير هذه الوضعية جذريا نتيجة نشأة الدول القومية، نظرا لوجود بيئة تتسم بالفقر والشعور بالتهميش لدى السكان، علاوة على سهولة اختراق الحدود، والاتجار غير المشروع (الأسلحة، المخدرات، المهاجرون، الذهب...).
ويجدر التنويه إلى أن اقتصادات معظم دول هذه المنطقة تشترك في مجموعة من نقاط الضعف، من بينها الجفاف/التصحر، الانتشار الواسع للسكان/سوء توزيعهم، الاعتماد على الخارج، والتطرف العرقي والديني...
في إطار امتدادات صراع الصحراء الغربية، وثورات الطوارق، والعشرية السوداء في الجزائر في التسعينيات، وسقوط القذافي، أدى تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في منطقة الساحل إلى تنامي التطرف العنيف المعروف ب «بالحركات المتطرفة»، وإلى العديد من التدخلات الأجنبية (سيرفال، مينوسما، بارخان، فاغنر...).
مع وصول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، اعتبارا من سنة 2018، شهدت المنطقة تغييرات جذرية. فقد جاءت الانقسامات داخل المشهد الإسلامي الساحلي، الذي كانت تهيمن عليه سابقا التيارات الدينية التي تقودها جماعات مثل الدعوة والتبليغ، والقاعدة. وظهرت الولاءات المختلفة لداعش أولا في ليبيا، ثم تونس والجزائر، لتنتشر بعد ذلك في جميع أنحاء منطقة الساحل. لقد كان الزلزال عنيفا، ولا تزال ارتداداته مستمرة، وتتزايد مع مساعي «الاسترداد» في العراق وسوريا.
ونشأت، في محيط العنف هذا، شبكات «تجارية» عديدة - للهجرة غير الشرعية، وتهريب المنتجات الغذائية والصيدلانية والسجائر والمخدرات والأسلحة والذهب...، حيث تطورت، إلى حد كبير، على حساب النظم الرسمية للدول المجاورة، وقد سمح انهيار المشهد وجاذبية الفراغ في ليبيا، بعد انهيار نظام القذافي، بإعادة انتشار قوى جديدة (مع أسلحتها ومواردها المالية) في منطقة الساحل. وهكذا «تطورت، حول الصحراء، وخاصة في دول الساحل، اقتصاديات موازية، غير مرئية، وغير شرعية -اقتصادات مظلمة-، تتميز أنظمة إنتاجها وتوزيعها وتمويلها بأصالة نسبية، حتى عندما تستخدم أحيانا الأنظمة التقليدية للدول».
الاقتصاد السياسي ل «التطرف»
سعيا منها لتأمين «اختراق» جيد للمنطقة، قامت الحركات المتطرفة ببلورة استراتيجيات «إغرائية» قائمة، أساسا، على تحفيز اقتصاد محلي، يتيح تقديم العديد من الخدمات للسكان. ويتمحور هذا الاقتصاد «المتكامل» حول أنشطة تولد فرصا للعمل والدخل، مثل: تجنيد المقاتلين والمتعاونين (مرشدين، سائقين، مخبرين، كوادر شبه طبية، إلخ)؛ توفير المنتجات الغذائية (حبوب، سكر، شاي، إلخ)، وقود، إطارات، قطع غيار، إلخ؛ توفير الأسلحة؛ وتفويض عمليات خطف الرهائن وحراستهم.
وتتمثل المنتجات الرئيسية المرتبطة مباشرة ب «التطرف» في عمليات الخطف مقابل فدية، و«المساهمات الطوعية بشكل أو بآخر» للسكان، وغنائم الحرب، و«المساعدة» الدولية. وتدخل بعض المنتجات، بشكل كبير في اقتصاد «التطرف»، دون أن تكون من مكوناته «المحددة»: السيارات -لا سيما من نوع تويوتا رباعية الدفع- الدراجات النارية - خاصة من نوع هوندا - والأسلحة الخفيفة.
لقد عرفت عمليات خطف الرهائن وتحريرها مقابل فدية، عصرها الذهبي، وربما كانت تمثل النشاط المتطرف الأكثر مردودية؛ إذ أن كل عملية لإطلاق سراح رهينة غالبا ما كانت مصحوبة بمقابل مالي، سواء أُعلن عن ذلك أم لم يعلن.
لقد وفر دفع الفديات للحركات المتطرفة موارد هائلة كانت سببا بارزا في تطورها الكبير، ولكنها أيضا كانت سببا في انقساماتها. فإلى جانب رد الفعل العنيف من المجتمع الدولي، تسببت المبالغ الكبيرة المتداولة في نشوب صراعات داخلية على القيادة.
و إذا كانت المنطقة قد شهدت دائما تبادلات للمنتجات الغذائية، فإن بعض المنتجات الموزعة في مخيمات اللاجئين، تُباع اليوم في جميع أنحاء المنطقة، وتنضاف إليها منتجات أخرى تدخل عبر شمال مالي وشمال النيجر. وتوفر هذه الأنشطة، الشرعية نسبيا، منتجات غذائية للاستهلاك اليومي مثل الأرز والسكر والشاي والحليب... في منطقة تعاني من ضعف في الخدمات الاقتصادية العمومية المقدمة من قبل الدولة، وغالبا ما تسلك هذه الأنشطة الطرق التقليدية للتجارة عبر الصحراء.
وغالبا ما تتيح القوة والتشابك في العلاقات التقليدية داخل هذه المجتمعات القبلية الإقليمية، تجاوزَ الحدود التي تفرضها الدول - بل وتستغلها - لفتح الطريق لهذه المنتجات، ودمجها في الشبكات التجارية لمختلف البلدان. كما تجد السلطات في هذه الأنشطة وسيلة ليس فقط لضمان تزويد مناطقها الشمالية، التي يصعب الوصول إليها عبر العواصم، ولكن، كذلك، لمراقبة ما يحدث في جميع أنحاء المنطقة.
وتشكل السجائر، وخاصة ماركة مارلبورو الشهيرة، منتجا كلاسيكيا في الاتجار غير المشروع. وهذه السجائر، ذات الأصل الأمريكي في الغالب، تلقى رواجا كبيرا في جميع أنحاء المنطقة. وقد أخذ هذا الاتجار أبعادا عالمية في العقود الأخيرة، أما المخدرات فيتم تهريبها بشكل أساسي من البرازيل وفنزويلا، ليتم تفريغها في بعض دول إفريقيا قبل أن تنتقل إلى أوروبا.
ويبدو أن عمليات ضبط المخدرات الكبيرة التي تمت في السنوات الأخيرة في بعض دول المنطقة تشير إلى تطور كبير في المنطقة في الأنشطة المرتبطة بالاتجار الدولي بهذه المواد.
وما زال مدى تورط حركات التطرف في هذه الأنشطة الكبرى موضع جدل كبير. ورغم الجهود الإعلامية لبعض الدول، لم يتم إثبات تورط مقاتلي البوليساريو ولا القاعدة في المغرب الإسلامي في هذه الأنشطة.
ما هو مؤكد اليوم هو أن المسارات تتداخل بين طرق اليوم والطرق القديمة لقوافل التجارة عبر الصحراء؛ حيث تعبرها اليوم شاحنات محملة بالمواد الغذائية والأدوية والوقود والعديد من المنتجات الأساسية الأخرى، علاوة على السجائر المهربة، والأسلحة، والمهاجرين غير الشرعيين، والحشيش أو «المسحوق الأبيض». ويبقى تحديد نظام محاسبة هذه الأنشطة وتتبع تدفقاتها المالية أمرا بالغ الصعوبة. لكن «من غير المرجح»، وفقا لبعض المصادر «أن يكون تهريب المخدرات مصدرا رئيسيا لتمويل المتطرفين؛ فهم قد يغضون الطرف/يؤَمِّنون قوافل الكوكايين التي تعبر الصحراء الكبرى سريا، مقابل توفير المهربين لعدد من الخدمات المتعلقة بالمعلومات العسكرية والتموين».
ومع تطور النزاعات العرقية في منطقة الساحل والصحراء، أولا، ثم الحركات المتطرفة، وأخيرا، الاتجار بالمخدرات، لم يتوقف مؤشر حركة الأسلحة الخفيفة عن الارتفاع.
وتبدو ممرات الهجرة غير الشرعية في منطقة الساحل والصحراء متطورة، وهذه الممرات أكثر نشاطا اليوم من أي وقت مضى، ومن الواضح أن هذا النشاط منظم عبر شبكات دولية تعمل أساسا من إفريقيا جنوب الصحراء. ومع ذلك، يلاحظ، منذ فترة، تطور ظواهر معقدة مرتبطة بهذا النشاط المركب. فعلى سبيل المثال، هناك حالات «تحويل» للمرشحين للهجرة، حيث يقوم هؤلاء بممارسة بعض الأعمال، خاصة في مجال الصيد، ومن ثم يعودون لبلدهم الأصلي، ويقيمون علاقات تجارية مع بلد المهجر. كما يتم الحديث عن طرق «تحويل» أخرى أكثر تقليدية، مثل الإقامة «المؤقتة» في بعض البلدان، والتي تصبح - بشكل متزايد - دائمة...
وعلى الرغم من غياب دراسات موثوقة حول الموضوع، فإن «التعدين الأهلي غير المشروع» يُشار إليه بشكل متزايد كمصدر لتمويل الحركات المتطرفة.
كما تم الحديث كثيرا عن الدعم الذي تقدمه للسكان، بعض الكيانات (أفرادا ومنظمات)، ويقول بعض المراقبين بإمكانية أن تؤول إلى المنظمات المتطرفة، بعض الأموال «الخيرية» التي تجمعها منظمات خيرية غير مسيسة لدى أثرياء يبحثون عن طرق فعالة لتكفير الذنوب الكبيرة (ويعتبر «الجهاد» وتمويله من أفضل الطرق في هذا الصدد). وقد كانت هذه الممارسات، إلى غاية سنة 2001، شائعة، وتتم بشكل علني. ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يتم استخدام طرق ملتوية متعددة، خاصة تمويل الأعمال الخيرية والمشاريع التنموية؛ حيث تخصص حصص منها، من قبل ممثلين محليين، ليتم تحويلها، وفقا لطرق معقدة إلى متطرفين.
مسارات التمويل
تتم داخل المنظمات ومن خلال الأنشطة آنفة الذكر، تعبئة فورية لمبالغ كبيرة، نقدا في الغالب، وفي العادة، باستخدام مسارات مالية توصف بأنها «غير مصنفة». وعموما ثمة اتفاق على أن المبالغ المتداولة عبر هذا النظام المالي غير المصنف تتجاوز بكثير تلك المتداولة في القطاع المالي المصنف بأكمله.
لقد أثارت مسألة البحث عن هذه الموارد واستخدامها، الكثير من الجدل بين الفقهاء والمنظمات المتطرفة. وتعود أول فتوى تجيز تمويل العنف من هذا النوع من الأنشطة إلى التسعينيات، وبالتحديد سنة 2001، حين أصدر الفقيه السلفي السوري أبو بصير الطرطوسي فتوى، يبيح فيها اللجوء إلى هذه الأنشطة المحرمة لتمويل العنف.
ووفقا لهذا الاجتهاد، يمكن تبرير الاستيلاء على الأموال «العمومية» بعدم شرعية امتلاكها من قبل الأنظمة التي تعتبر «مرتدة» في نظرهم من جهة، ومن جهة أخرى بذريعة حق «المجاهدين» قانونيا في أي مال عمومي حسب اعتقادهم.
ويرى معظم المراقبين أن المقاتلين ليسوا جزءا من تجارة المخدرات؛ وإنما يقومون فقط بتسهيل نقلها عندما تكون موجهة إلى «الكفار». وتؤمن الحركات القوافل التي تمر عبر مناطقها بشكل سري، مقابل «حقوق مرور» كبيرة وثابتة نسبيا، وكانت هناك خلافات كبيرة بين المتطرفين حول شرعية مثل هذه الموارد.
لقد فهمت الدول وغيرها من المنظمات الدولية بسرعة أن مكافحة تمويل التطرف والتطرف العنيف في منطقة الساحل، تتطلب تنفيذ عدد من الإجراءات من قبيل: تعزيز عملية دمج النشاط الاقتصادي في النظام المصرفي (تقييد العمليات النقدية)، تعزيز الرقابة والإشراف على البنوك ومقدمي خدمات تحويل الأموال، وتأطير التعدين الأهلي، وتفعيل السجلات العقارية (تحديد الملكية العقارية)، إنشاء نظام معلومات متكامل لقاعدة البيانات (الجمارك، الشرطة، الدرك، المديرية الوطنية للنقل، المديرية العامة للضرائب، المديرية الوطنية للسجل العقاري)، وتعزيز التعاون الدولي في مجال المعلومات المصرفية والاقتصادية.محمد فال ولد اباه - خبير محاسبي – باحث في الأنثروبولوجيا
أهم المصادر والمراجع
- سيدي عمر بن سيدي علي الكنتي، «سؤال في حكم الجلوس مع النصارى في أرض واحدة (رسالة إلى الشيخ محمد باي بن عمر)»، ورقة واحدة، غير مؤرخة.
- عبد الحكيم شالوت، «الحياة الاقتصادية» (19 أكتوبر 2009).
- Alain Antil, « Contrôler les trafics ou perdre le Nord. Notes sur les trafics en Mauritanie » in Le Maghreb dans son environnement régional et international. Notes de l’IFRI. Paris 2010.
- Ansar Eddine, Plateforme politique. 2/1/2013
- Hegghammer Thomas, « Jihadi-salafis or revolutionnaries ?Onreligion and politics in the study of militant islamism”, in Roel Meijer (dir), Global salafuism, islam’s new religious movement, Londres, Hurst&co. Publichers, 2009.
- La Sécurité du Sahara et du Sahel, Cahiers du Cerem (Centre d’études et de recherche de l’École militaire).www.cerems-biblio.fr
- Laffitte Roland, Djihadistes. Orient XXI. 23/11/2016
- Laurent Bigot, Le terrorisme au Sahel, conséquence de la prévarication érigée en mode de gouvernance. 16/08/2017
- Mohamed Fall ould Bah, « De certaines formes de revitalisation des échanges transsahariens », in Travaux du colloque des thinks thanks sahéliens, IMES 14-15/12/2019.