ب. الخطوة الثانية: الإعداد
ينبغي الآن التفرغ لهذه العملية المعقدة نسبيا، والتي تبدأ بغمر «العرگه» بالماء في إناء كبير(أسلاي مثلا)، على أن لا تقل فترة الغمر بالماء عن يومين، يتم أثناءها تحريك المزيج (ماء، تراب ومادة دسمة) باستمرار بواسطة عود إلى أن يكتسب اللون الأحمر، وهي علامة أولية على جودته. وهنا تتم تصفية المزيج بواسطة مصفاة عادية مرتين، وفي المرة الثالثة يستخدم القماش لغرض التأكد من جودة التصفية.
بعد إتمام التصفية يتم سكب المزيج من الإناء في قدر من نوع «تنكرده»، ويجب أن يكون هذا القدر غير معطوب، ولم يسبق له أن تعرض لعطب. والقصد هنا هو أن العطب يترتب عليه إصلاح (ربط)، وهو ما يعرض المزيج للصدأ، وقد أثبتت التجربة الأثر السيئ للصدأ على فعالية وجودة المزيج.
يتم إذن غلي المزيج داخل القدر بواسطة موقد جديد، وقوده حطب من النوع القوي (اصحيح) أي «إمجيج أو سانقو»، وهي أشجار محلية، لتمديد فترة الغلي التي يمكن أن تستمر يوما كاملا، من الصباح إلى المساء مثلا. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن هذا الموقد يجب أن يكون كافيا فقط للمحافظة على مستوى معين من درجة الحرارة، يؤمن غلي المزيج طيلة الفترة المذكورة.
ويمكن التأكد من جودة المزيج عند انتهاء فترة الغلي، من خلال سحب قطرة منه بواسطة عود، ووضعها على الأرض. ويستحسن أن تجري هذه التجربة على مستوى منبسط ، فإذا ما تماسكت القطرة وامتنعت عن التسرب، فإن الدليل أصبح قائما على جودة المزيج أي أنه أصبح جامدا (اعگد). أما إذا حصل العكس وتسربت القطرة إلى التراب، فإن المزيج يحتاج إلى المزيد من الغلي.
وعلى افتراض وصول المزيج إلى مرحلة الجودة، يُسكب من جديد في إناء متوسط الحجم أو قدح، يكون على شكل حوض منبسط غير مقعر، ويتم وضع عيدان خاصة (احشيش الحمره) فوق سطح المزيج الجامد لأجل المحافظة على تماسكه. وهكذا يُعرض المزيج بعد هذه الإجراءات لأكبر قدر متاح من الرياح، عن طريق وضع الإناء فوق أغصان أطول شجرة قريبة (جحفت صدرايه) مع حلول الغروب مثلا، وتركه هناك حتى الصباح. ويهدف هذا الإجراء الأخير إلى الوصول إلى مرحلة الصلابة، أي تحول المزيج من الشكل السائل إلى الشكل الصلب (يگرس)، وعندما يصبح صلبا يكتسب اللون الأبيض الناصع، ويتحول إلى قطع صغيرة منعزلة (مراود) على شكل اسباگتي مكسرة. ومن المحتمل ملاحظة بقايا الماء داخل الإناء، وهنا يتم التخلص منها بسهولة عن طريق سكبها.
جدير بالملاحظة أن الماء قد استخدم من بداية العملية إلى نهايتها كوسيط، يسهل تفاعل العناصر الكيميائية المكونة «للعرگه» في درجة حرارة معينة، كافية لغلي المزيج الذي سوف يتحول لاحقا عند تنقيته إلى «ملحه».
ولأجل الوصول إلى درجة التجفيف الكامل للمزيج الصلب، الذي أصبح الآن «مراود» أو«ملحه» تتواصل عملية التخلص من الماء عن طريق تشريح «الملحة»، وتعريضها لأشعة الشمس وتحريكها بواسطة عود، بعد نزع العيدان (احشيش الحمره)، التي كانت تعمل على تماسك المزيج عندما كان في شكله السائل. وبعد التأكد من جفاف «الملحه» وجودتها، يتم تخزينها في «كوز» وهو نبات محلي، يستخدم تقليديا بعد تجفيفه وتجويفه لحفظ الأشياء، ، وذلك لغرض حفظها واستخدامها لاحقا.
3 - «العلك» وهو الصمغ العربي
لا يحتاج هذا العنصر إلى تحضير، إذ يتم استخلاصه جاهزا للاستخدام من الطبيعة. وهو متوفر بما فيه الكفاية لكثرة الأشجار المحلية التي تنتجه (الطلح، أوروار وصدره بيظ)، وهي أشجار محلية تتميز بخاصية إنتاج الصمغ العربي، ويعتبر علك «أوروار» من أفضل الأنواع المستخدمة لصناعة البارود. كذلك فإن «العلك» لا يتطلب إجراءات استثنائية لحفظه وتخزينه، فقط يتم غمره بالماء في إناء صغير لحظة استخدامه لتصنيع البارود.
4 - «الكبريت»
هو مادة صلبة على شكل حجر أصفر، يستخدم لأغراض متعددة منها معالجة النخيل والجرب لدى الحيوانات، بالإضافة طبعا إلى الغرض الأساسي وهو صناعة البارود. يتم الحصول عليه من أسواق المدن المجاورة، فهو العنصر الوحيد من بين العناصر الأربعة المستخدمة لصناعة البارود الذي تبخل به الطبيعة.
المرحلة الثانية: «السباعيه»
تعني «السباعيه» في معناها الحرفي المقدار المستخدم من الملحه فقط، لكنها تطلق في نفس الوقت على المرحلة الثانية برمتها، أي عملية مزج العناصر الأربعة مع بعضها.
نحن الآن إذن بصدد إنجاز الخطوة الكبرى، التي ستؤمن الحصول على قوة دفع الرصاصة، أي البارود وهو الهدف المنشود. وحتى تجري هذه العملية في ظروف مثالية يجب على الصانع التقليدي أو المحارب اللاهث وراء تأمين شروط القوة، أن يوفر مجموعة من الأدوات التقليدية الضرورية لإنجاز العمل.
وهذه الأدوات هي:
1 - «مهراز»، وهو مِهراس منبسط أو مسطح القاع (ملگي)
2 - «مدگه» وهي مِدقة ملساء الرأس بدون شقوق(ملگيه)
3 - صفحة معدنية
4 - سكين
5 - مسند أو مقعد
6 - إناء أو قدح
وعلى افتراض إتمام تحضير العناصر وتوفير الأدوات، يعمد «مهندس» العملية في خطوة تالية إلى تحديد المقادير الكافية لتحضير «السباعيه».
المقادير
1 - «الملحه»: يتحدد المقدار المطلوب من «الملحة» بملئ الكف سبع مرات، ويوضع هذا المقدار في «المهراز»، في انتظار إضافة المقادير الأخرى إليه.
2 - «لحموم»: لا يزال الفحم حتى لحظة تحضير «السباعية» محفوظا تحت «الصابره»، كما تركناه عند الانتهاء من تحضيره. يتم الآن إخراجه ووضعه في إناء أو قدح، وتكسيره ورشه بالماء رشا خفيفا عن طريق الفم، من أجل تخليصه من بقايا الرماد. ويصل المقدار المطلوب من «لحموم» إلى 14 كفا، تتم إضافتها في الحال إلى المقدار السابق من «الملحه».
3 - «الكبريت»: كما هو الحال بالنسبة للفحم، يتم أيضا تكسير الكبريت من أجل تسهيل تحديد المقدار المطلوب منه، وهو كف واحدة تضاف مباشرة إلى المقدارين السابقين.
4 - «العلك»: لا يُستخدم «العلك» في حالته الصلبة، إذ لا بد من إذابته في الماء عند تحضير «السباعيه»، ويضاف هذا الماء الممزوج بالعلك إلى العناصر الثلاثة السابقة في مرحلة معينة من مراحل العملية. لذلك فإنه من الصعوبة بمكان تحديد المقدار المطلوب من العلك الذي يتم استخدامه دائما في حالته السائلة.
بعد أن تحددت المقادير وأضيف بعضها إلى بعض في «مهراز» واحد، يتخذ «مهندس» العملية وضعيته المثالية التي تمكنه من تنفيذ مهمته الجديدة وهو في حالة من الارتياح الجسمي، فهذه المهمة تتطلب جهدا عضليا كبيرا، ومثابرة خاصة. من أجل ذلك عليه أن يتخذ له مقعدا أو مسندا وأن يكون في حالة جلوس دائم.
وهكذا يبدأ بخلط العناصر الثلاثة (ملحه، فحم وكبريت)، ومزجها مع بعضها في «مهراز» عن طريق الدك والدق بقوة باستخدام «المدگه». ولا يمكن الحديث هنا عن سقف زمني لهذه العملية، لأن ذلك يتوقف ببساطة على درجة الجودة التي وصل إليها الخليط في كل مرة يتم فيها اختباره.
يضاف الماء الممزوج ب «العلك» إلى الخليط في بداية العملية، وعند كل مرة يلاحظ فيها تفتت أوعدم تماسك الخليط، حتى يصل إلى مرحلة «التگران»أي التماسك التام، وبذلك يمكن استنتاج دور عنصر «العلك» في الخليط وهو ربط وتماسك عناصر هذا الخليط فيما بينها.
لكن مرحلة التماسك أو الترابط «التگران» لا تكفي للتدليل على جودة الخليط، بل ينبغي أن يتواصل الدق وتحريك الخليط بواسطة سكين بعد كل توقف، حتى يتحول إلى قشور أو كتل وهي مرحلة الامتزاج التام (انگطع)، أي أنه أصبح لدينا الآن بارود، استنادا إلى توفر المواصفات الفنية المطلوبة.
لكن، حتى توفر هذه المواصفات لا يعطي إجابة قاطعة حول مدى جودة البارود، لذلك يتحتم إخضاعه لاختبار صارم من خلال التجربة التالية:
لإنجاز هذه التجربة العلمية، ينبغي أولا توفير الأدوات التالية:
- صفحة معدنية عريضة نسبيا
- سكين
- عود ثقاب
- بالإضافة طبعا إلى قشرة أو كتلة تمثل عينة من البارود محل التجربة.
بعد تسخين الصفحة المعدنية تسخينا تاما، توضع فوقها العينة المدروسة، ويتم تقطيعها وتحريكها بواسطة السكين حتى يتأكد جفافها، ثم تجمع القطع الصغيرة مع بعضها.
وقبل الشروع في الخطوة التالية، يلزم القيام بإجراء أمان ضروري لسلامة الأفراد المشرفين على التجربة. ويتمثل هذا الإجراء في إبعاد حاوية البارود «المهراز» عن موقع التجربة خمسة أمتار على الأقل، مع الحرص على توجيه فوهتها إلى الجهة التي لا تشكل خطرا.
بعد التأكد من إتمام إجراء الأمان، تبدأ مرحلة الاختبار الحقيقي، من خلال تقريب عود مشتعل الرأس من العينة الجاهزة فوق الصفحة المعدنية. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الإجراء في حد ذاته يتطلب مهارة عالية بالنسبة لمنفذ التجربة، فلمس العينة بالعود المشتعل يجب أن يتم بسرعة فائقة، ودون أي تباطؤ. وهكذا يحدث الانفجار، وهو لا يعدو كونه نفخة صغيرة، ناجمة عن احتراق العينة المدروسة، التي لا يبقى منها سوى أثرها على الصفحة المعدنية، وهذا الأثر هو الذي يحدد بصورة قاطعة مستوى الجودة الذي وصل إليه البارود.
نحن إذن أمام احتمالات ثلاثة:
- الاحتمال الأول: أن يترك البارود المتفجر أثرا أبيض في مكان الانفجار، وهو ما يعني زيادة غير مرغوبة في «الملحه»، مما يتطلب إضافة قليل من الفحم إلى الخليط ومواصلة الدق.
- الاحتمال الثاني: أن نحصل على بقايا طفيفة محترقة في مكان الانفجار، مما يدل على أن الفحم لم يطحن بما فيه الكفاية ويحتاج بالتالي إلى دق إضافي.
- الاحتمال الثالث: أن يترك البارود المتفجر أثرا أحمر دون أية بقايا، وهذا هو الدليل القاطع والمطلوب على جودة البارود التامة وصلاحيته للاستخدام.
بعد أن تكللت جهوده بالنجاح وحصل على «الجوهرة المفقودة»، يشرع الصانع التقليدي أو المحارب في إجراءات الحفظ والتخزين.
وتبدأ هذه العملية الجديدة بانتزاع البارود من الحاوية «مهراز»، بقلعه من القاع والجوانب باستخدام السكين، ويوضع فوق طبق، ويتم تقطيعه مجددا بواسطة السكين أيضا، حتى يتحول إلى قطع صغيرة معزولة ومتساوية الحجم. ولهذا الغرض يتم استخدام الطريقة التقليدية في إعداد الكسكس(اتجاري). وتقتضي هذه الطريقة مواصلة تحريك الطبق من الجوانب بهدف عزل القطع الكبيرة لإعادة تقطيعها.
وقبل أن يخزن البارود نهائيا في أدوات الحفظ التقليدية المعدة لذلك، يتم تعريضه مجددا لأشعة الشمس حتى يتأكد جفافه. وهكذا يوضع في «الكوز»، ويغلق عليه بواسطة قطعة قماش، ويحفظ هذا «الكوز» في صندوق أو «تاسوفره»، وهي إطار جلدي يصنع من جلود البقر أو الإبل يستخدم تقليديا لحفظ الأشياء.
(3)- صناعة «أم اجليده»
أو الكبسولة
تمثل «أم اجليده» الفتيل الذي يطلق الشرارة الأولى لعملية الانفجار، وهي جزء من منظومة الإشعال التي تؤدي، بعد سلسلة عمليات إلى تزويد المقذوف (الطلقة) بقوة الدفع اللازمة.
ومثلما هو الحال بالنسبة للبارود، فإن الصانع التقليدي لا يحتاج إلى كبير عناء لتجميع أغلبية العناصر التي تشكل «مواد أولية» لصناعة «امجليدة»، فهذه العناصر متوفرة وبكثرة في البيئة المحيطة به. وهي:
1. عصب من قائمة «دامي» وهو المها المحلي، أو جلد ساق «حبشة» وهي طائر بري أو حتى جلد شاة عادية.
2. «سقية» وهي مادة مشتعلة اصطناعية، تلصق على جوانب علبة أعواد الثقاب وتولد شرارة عند الاحتكاك بعود الثقاب، أو»تميشه»، وهي حجر كان مستخدما على نطاق واسع قبل ظهور السقية التي حلت محله في صناعة الكبسولة، حيث كان يتم تهذيبه ليأخذ شكل القطعة المسطحة المحددة من الأمام لضمان إحداث الشرارة عند الاصطدام ب «الكانون».
3. عود بحجم قلم رصاص
4. عود ثقاب
وفيما يلي الكيفية التي يتم بها تحضير هذه العناصر، وذلك في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثانية طريقة دمج المواد مع بعضها من أجل الحصول في النهاية على الكبسولة.
1. المرحلة الأولى:
تحضير العناصر
«العصبه»: تحتل «العصبه» (عصب دامي خصيصا) المرتبة الأولى من حيث الأهمية، بالنسبة للبدائل الأخرى (جلد ساق «حبشه» أو جلد شاة عادية) التي تفي بنفس الغرض، وذلك فيما يتعلق بصنع إطار الكبسولة.
يتم انتزاع «العصبه» من ساق (آنشيش) دامي، وحتى تصبح صالحة للاستخدام تمضغ جيدا إلى أن تفقد صلابتها وتماسكها، وتتحول إلى ما يشبه «الشحمه»، ثم يتم تقطيعها قطعا صغيرة كافية لتغطية رأس عود بحجم قلم رصاص. نقوم الآن بتعريض العيدان المغطاة للشمس بهدف تجفيف هذه الأغطية، وتحويلها إلى أغلفة صغيرة، صلبة ومقعرة.
ولا تحتاج بقية العناصر إلى جهود استثنائية لكي تصبح جاهزة للاستخدام، سواء تعلق الأمر ب»السقيه»أو»التميشه» اللتان تفيان بنفس الغرض، أو العيدان العادية أو أعواد الثقاب.
1. المرحلة الثانية:
الإعداد أو «التموكين»
بعد أن تجف الأغلفة الصغيرة المقعرة، يعمد الصانع التقليدي إلى تقطيع «السقيه»، ويجب أن تكون القطع المتحصلة صغيرة بدرجة كافية لوضعها في قاع الغلاف الجلدي المقعر، بعد أن فصل عن عيدان التجفيف، مع الحرص على أن يكون الجانب الذي يحمل المادة المشتعلة من القطعة الصغيرة هو الأعلى.
بعد ذلك يتم سحق المادة المشتعلة بعد فصلها من على رأس عود الثقاب، وإضافتها إلى قطعة «السقية»الصغيرة في الغلاف الجلدي المقعر. وتتم تغطية القطعة والمسحوق بقطعة صغيرة جديدة إضافية من»السقية»، على أن يكون جانبها الذي يحمل المادة المشتعلة إلى الأسفل هذه المرة، أي في وضع معكوس بالنسبة للقطعة الأولى.
ولا شك أن ترتيب محتويات الغلاف الجلدي الصغير(القطعتان والمسحوق) بهذه الطريقة يجعل المادة المشتعلة متلامسة مع بعضها، وهو ما يهيؤها للاشتعال تحت تأثير أي سحق، وهو الهدف المقصود. ولخدمة هذا الهدف، يتم دك القطعتين والمسحوق بواسطة مؤخرة سكين أو عود غير مدبب من فوهة الغلاف الجلدي الصغير الذي أصبح الآن إطار الكبسولة. ومن أجل حفظ هذه الكبسولة «أم اجليده»، وحتى لا تتناثر محتوياتها، تتم تغطيتها بقطعة قماش، وتخزن في قصبة (گصبه). وعند الحاجة إلى استخدامها يتم نزع قطعة القماش.
جدير بالذكر أن الأغلفة الجلدية التي جففت ولم تعبأ بالمادة المشتعلة، لا يتم فصلها عن عيدان التجفيف، وتحفظ على هذه الحالة، إلى حين تجدد الحاجة إلى صناعة المزيد من «أم اجليده».
(الجزء الثاني)
بقلم: عقيد حديد