قراءة في كتاب:
عرفت المجتمعات البشرية منذ نشأتها أنواعا متعددة من الأزمات الأمنية، غير أن تعقيدات الحياة الحديثة ولدت أشكالا أخرى أكثر خطورة وشراسة، حتى أضحت من قضايا العصر الشائكة؛ نظراً لتعقيداتها وقوة تأثيرها على مختلف أوجه الحياة؛ الأمر الذي فرض على الأجهزة الأمنية الاستعداد الدائم لمواجهة هذا النوع من الأزمات وتوقعها حتى قبل الوقوع، من خلال اتخاذ الإجراءات القوية المبنية على نتائج العلوم الإدارية الحديثة، والتخلي عن الأساليب القديمة لمواجهتها في مختلف مراحلها؛ قبل وأثناء وبعد الأزمة .
شاع مصطلح «الأزمة» في حقل العلاقات الدولية منذ مطلع القرن المنصرم للتعبير عن أي تهديد عام للسلم، غير أن استخداماته توسعت لاحقا في الحقول الأخرى، ونظرا لتزايد الأزمات في العالم بدأ الاهتمام يتحول من إدارة الاستراتجيات إلى إدارة الأزمات.
قرأنا لكم في هذا العدد كتاب: «إدارة الأزمات الأمنية» لسالم عبد الله، الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2010 في أبوظبي، وهو أحد الكتب الهامة في مجال إدارة الأزمات الأمنية، حيث يناقش كيفية التعامل مع الأزمات الأمنية المختلفة التي قد تواجهها الدول والمؤسسات، من زوايا متعددة محاولا تقصي أسس الدراسات النظرية التي تناولتها، والحلول الإدارية المتبعة في مجالها، والمتمثلة في التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، والوقوف على الدور المتنامي لنظم المعلومات الرقمية، بالإضافة طبعا إلى دور التخطيط والقيادة والسيطرة في مواجهتها.
مضامين الكتاب:
يتكون الكتاب من ثلاثة فصول، يتناول أولها مفاهيم الأزمة الأمنية وإدارتها، فيما يتعرض الثاني إلى دور التخطيط والتنظيم في مواجهتها، أما الثالث والأخير فيتناول دور الرقابة والتوجيه في مواجهتها.
أولا: مفهوم الأزمة الأمنية
يعرف المؤلف الأزمة الأمنية بأنها وضع غير متوقع يهدد الاستقرار الأمني للدولة أو المؤسسة. ويركز على خصائص الأزمة الأمنية المتمثلة في عنصر المفاجأة، ونقص المعلومات، ومحدودية الوقت المتاح للتصرف، ويوضح: أنها موقف مفاجئ أو نقطة حرجة ينتج عنها تهديد خطير للأمن والاستقرار، وقد تنجر عنها خسائر بشرية ومادية ومعنوية، وتتصاعد أحداثها خلال وقت ضيق، وفي ظل إمكانيات قليلة، ومعلومات ناقصة، وحاجة عاجلة إلى اتخاذ القرار، وإلى تكاتف الجهود وأعمال التنسيق بين كثير من الجهات الأمنية وغير الأمنية لمواجهة الموقف. لذلك تتميز الأزمة الأمنية بخصائص أهمها: التشابك، والتحدي، والمفاجأة، والاستفحال، وصعوبة السيطرة، وغموض الهدف، وتعاظم التبعات.
أنواع الأزمات الأمنية
كما يتناول الأنواع المختلفة للأزمات الأمنية التي قد تكون داخلية (مثل التمردات أو الجرائم المنظمة) أو خارجية (مثل التهديدات الإرهابية أو الهجمات السيبرانية).
مراحل الأزمة الأمنية
يرى المؤلف أن الأزمة الأمنية تمر بعدة مراحل، بدايةً من مرحلة «الإنذار المبكر»، حيث تتوفر بعض المؤشرات التي قد تنبئ بوقوع الأزمة. ثم تأتي «مرحلة التصعيد» التي تشهد تطور الأزمة وبدء تأثيراتها. تليها «مرحلة المواجهة» حيث يتم اتخاذ إجراءات لاحتواء الأزمة والتقليل من آثارها، وصولاً إلى «مرحلة الحل» أو «التحكم بالأزمة»، وأخيرًا «مرحلة ما بعد الأزمة» التي تتطلب تقييمًا للآثار وتطوير السياسات اللازمة لمنع تكرارها.
إدارة الأزمات الأمنية
إدارة الأزمات، كما يرى المؤلف، هي عملية إدارية فنية خاصة، تقوم على التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، ويطلع بها إداريون يتمتعون بمهارات وقدرات عالية. ولنجاح إدارة الأزمة لابد من عوامل أبرزها: كفاءة إدارة الوقت، وإنشاء قاعدة شاملة ودقيقة من المعلومات، وتوافر نظم إنذار مبكر، والاستعداد الدائم لمواجهة المواقف الطارئة، والقدرة على حشد الموارد المتاحة وتعبئتها، وتوافر نظام اتصال فعال ومتطور، كما تحتاج مجموعة من الاستراتيجيات أهمها: التخطيط المسبق، التنسيق والتعاون، والقيادة الفعالة، وإدارة المعلومات.
ونتيجة لذلك تتعدد مستويات إدارة الأزمات، وفقاً لحجم الأزمة وأبعادها، مما يترتب عليه اختلاف مستويات التعامل معها؛ وهي تتدرج من المستوى الدولي، إلى المستوى الوطني، فالمستوى المحلي.
وتنطوي العملية الإدارية عموماً على عناصر أساسية كالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة. ويُقصد بالتخطيط في مجال الأزمات التنبؤ باحتمالية وقوعها، وبموقف أطراف الأزمة والظروف المحيطة بها، والإعداد الجيد لمواجهتها، مع مراعاة ردود الأفعال المحتملة، وتجنب آثارها.
ثانيا: التخطيط
فالتخطيط هو إجراء مسبق لإدارة الأزمة الأمنية، وكما يقول المؤلف فإنه لكي تتم مواجهة الأزمات بالشكل الفعال، لابد أن تتسم عملية التخطيط لإدارتها بالسمات التالية: العلمية، والمركزية، والإلزامية، والمرونة، والواقعية، والمشاركة، والاستمرارية. كما يتحتم على القائمين بعملية التخطيط لإدارة الأزمات الأمنية، تحديد هدف الخطة، وجمع البيانات والمعلومات اللازمة، وتحليلها، وحصر الإمكانيات والموارد المتاحة، وتحديد الوقت المتاح للتعامل مع الأزمة، وطبيعة المخاطر والتهديدات المحتملة، ومراعاة الثقافة السائدة في المجتمع، واتفاق الخطة مع السياسة العامة للبلاد، وتوافر الخبرات ووجود المختصين لإدارة الأزمة، ومشاركة جميع المعنيين في تنفيذ الخطة وموافقتهم. وإلى ذلك، يشير المؤلف بالقول: «يمثل التنبؤ بالأزمات أحد أهم عناصر التخطيط، ويقصد به تقدير الموقف الذي سيكون عليه المستقبل.»
والتنبؤ ركيزة أساسية في معالجة الأزمة؛ ويشمل: ترجيح مصادر الخطر المحتمل، وتصميم سيناريوهات بديلة لمواجهة التهديدات المفترضة، وتصميم برامج للتعامل مع كافة مصادر الخطر. وتوجد أساليب عدة للتنبؤ بالأزمات منها: مصفوفة تحديد الأولويات للأزمات، ومصفوفة تقويم الأزمات المحتملة، ومصفوفة تحديد الأزمات باستخدام معيارَي شدة الخطورة ودرجة التحكم، ونموذج تقويم درجة الاستهداف للأزمات، ونموذج مهارات التنبؤ بالأزمات المحتملة.
خطة إدارة الأزمات
يرى المؤلف أن خطة إدارة الأزمات تهدف في جوهرها إلى محاولة منع الأزمة باتخاذ إجراءات وقائية، وتشمل خطوات العمل اللازمة لزيادة فعالية التعامل، والمقاييس المناسبة لتحسين سمعة المؤسسة وصورتها، والوسائل المثلى لاستخدام الوقت والإمكانات المادية والبشرية. وعادة ما تتضمن الخطة الأمنية مجموعة من السيناريوهات أو «الفروض المتعلقة بحدث أو موقف أمني محتمل الحدوث». ويشدد المؤلف على أهمية التنظيم في مواجهة الأزمات الأمنية؛ إذ يقلل الاحتكاك والتضارب بين المنفذين، ويمكّن من الرقابة الفعالة على جميع الأعمال,
ثالثا: التوجيه
وفي معرض تناوله دور التوجيه في مواجهة الأزمات الأمنية، يوضح المؤلف أن التوجيه يمثل أحد مراحل إدارة الأزمة الأمنية، إذ يبدأ فور الانتهاء من مرحلتي التخطيط والتنظيم، وهو يعني «الاتصال بالمرؤوسين لتوضيح ما خفي من أمور، وتوزيع المهمات عليهم، وتنسيقها بينهم، ووصف كيفية التنفيذ، وتصحيح أخطائهم ، وإيجاد التعاون الجماعي وتنميته بينهم». لذلك، تحتاج الأجهزة الأمنية إلى القائد المميز الذي يتمتع بالخبرة، ويتحلى بصفات تجعله قادراً على إدارة الأزمة الأمنية.
كما تمثل الرقابة حلقة أساسية من حلقات العملية الإدارية؛ وهي ترمي إلى التيقن من أن تنفيذ خطة إدارة الأزمة يسير وفق الخطوات المحددة والنهج المرسوم، واكتشاف العراقيل والعوائق، وتصحيحها.
دراسات حالات:
يقدم المؤلف في الكتاب بعض الأمثلة الواقعية لأزمات أمنية حدثت في دول مختلفة، وكيف تم التعامل معها. هذه الأمثلة تساعد في فهم التطبيق العملي للنظريات والاستراتيجيات التي تمت مناقشتها في الفصول السابقة.
التوصيات
ومن تحليله لإدارة الأزمات الأمنية، يخلص المؤلف إلى توصيات عدة يتعين على الأجهزة المعنية بمواجهة الأزمات الأمنية ضرورة وضعها في الحسبان، وأهمها: إعداد وتطوير السياسات والخطط الخاصة بمواجهة الأزمات والكوارث، والاستفادة من القادة المتقاعدين، وتجهيز مراكز معلومات متطورة للعمليات، وإنشاء وحدات للتنبئ بالأزمات الأمنية، وإعداد وتجهيز الفرق، وتدريب المختصين في إدارة الأزمات.
الخلاصات
يعد هذا الكتاب مرجعًا مهمًا في مجال الأمن وإدارة الأزمات، التي باتت موضوعًا بالغ الحيوية في العصر الحديث، حيث أصبحت الأزمات الأمنية جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للدول والمنظمات، مع تزايد تعقيد العالم، وأصبحت إدارة الأزمات الأمنية تحديًا حقيقيًا يتطلب استراتيجيات متقدمة وتنسيقًا عالي المستوى بين مختلف الجهات من أجل حماية أمن الدول والمؤسسات في مواجهة التحديات الأمنية التي قد تكون طبيعية أو من صنع الإنسان، وتتطلب سرعة في الاستجابة ودقة في التعامل نظرًا لخطورتها وتأثيرها الواسع.
يقدم الكتاب إطارًا نظريًا متينًا لفهم طبيعة الأزمات الأمنية، من خلال تعريفها وتحليل أنواعها ومراحلها، ولا يكتفي بالتحليل النظري، بل يمزج بين النظرية والتطبيق عبر دراسة حالات واقعية، مما يعزز من قيمته كمرجع عملي.
ويمكن القول إنه كان يمكن أن يستفيد من توسيع نطاق التحليل ليشمل تأثير العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية في إدارة الأزمات، حيث أن هذه العوامل تلعب دورًا كبيرًا في كيفية استجابة المجتمعات للأزمات.