«الثقافة العسكرية» و «الثقافة الديمقراطية»

« الأشياء في العالم هي غالبا في علاقات اعتماد وتبادل، وليست في علاقات سبب ونتيجة، وبدلا من أن نراها في علاقة سبب ونتيجة، علينا أن نراها في علاقة ترابط.»

علي عزت بيكوفيتش

تطلق «الثقافة العسكرية» على منظومة القيم التي تحدد العلاقة بين العسكريين وتنظم الأدوار داخل المؤسسات العسكرية، وهي ثقافة مهنية تمتاز بالانضباط الصارم، والتراتبية التسلسلية، وتنبني على عقيدة قتالية محكمة، وقد تشكلت نتيجة لتراكمات الحياة العسكرية الصعبة، والمرهقة تبعا للمهام الجسيمة التي تلقى على عاتق العسكري، وتتطلب الكثير من الحزم، والتحفظ، والنظام، وتعتمد على التنظيم البيروقراطي المحكم.

في حين، تعرف «الثقافة الديمقراطية» بأنها: ذلك الفضاء العام المحيط بالممارسة الديمقراطية أي تلك القيم الكبرى التي تشكل وعيا جماعيا للنظام الديمقراطي، والتي تنبني على منظومة أخلاق عامة كالتفهم والتعايش واحترام الآخر وتقبل الاختلاف وإشاعة قيم دولة القانون والحريات.

تشكلت عبر العصور بين «الثقافة العسكرية» و«الثقافة الديمقراطية» علاقة معقدة، ومفعمة بالأسئلة والتحفظات خاصة في جو الشحن الموجود في العصر الحالي، والذي تغذيه (المنتديات العامة، والأكاديمية، ووسائل الإعلام، ووسائط التواصل الاجتماعي، والانترنت، وبعض المشاهد على أرض الواقع) حيث يتم الزج بالثقافتين: (الديمقراطية العسكرية) في الحلبة وجها لوجه كخصمين، ومن هنا جاء التقابل بين الثقافتين «العسكرية» و«الديمقراطية».

لكن في الجزء الآخر من الصورة يسود مناخ عام ايجابي يسعى إلى إيجاد آليات للتعايش والتكامل بين الثقافتين أكثر مما يدفع للبحث عن مظاهر للتضاد والتناقض. ف«الثقافة الديمقراطية» ضرورية للرقي بالشعوب و«الثقافة العسكرية» ضرورية ليبنى عليها الاستقرار الذي يعتبر شرطا جوهريا لوجود «الثقافة الديمقراطية» ومن هنا جاء التكامل بين الثقافتين.

في هذا المقال سنحاول رسم ملامح أوجه التقابل والتكامل بين الثقافتين العسكرية والديمقراطية، لكي نخلص إلى رصد السبل الكفيلة بإشاعة قيم التكامل وتعزيزها وتبديد سوء الفهم الذي يصاحب أوجه التقابل.

أولا / أوجه التقابل

بين الثقافتين

توجد صورة نمطية في أذهان الكثيرين ترسم العلاقة بين الثقافتين العسكرية، والديمقراطية على أنها علاقة عدائية، وأنهما طرفا نقيض متضادان في كل شيء، والسبب في هذه النظرة المتطرفة يعود كثير منه إلى أن منطلقات هاتين الثقافتين، وأهدافهما مختلفة بصورة كبيرة.

ففي حين تنطلق الثقافة العسكرية (ثقافة القوات المسلحة) من الحاجة إلى امتلاك القوة، وتتجه نحو أهداف تتعلق بحماية استقلال الأمة، وإدامة أمنها، والدفاع عن وجودها تنطلق الثقافة الديمقراطية من الحاجة إلى ممارسة الحريات وتتجه نحو أهداف تتعلق بحكم الشعب لنفسه بنفسه، وإشاعة الحريات.

ومن الطبيعي أن امتلاك القوة من أجل استخدامها يقتضي بالضرورة قيما منضبطة، وصارمة، وموجهة بدقة في اتجاه محدد، وبالمقابل فان ممارسة الحريات، والسعي إلى إشاعتها يقتضي على النقيض من ذلك قيما حرة، ومنفتحة تستوعب جميع الآراء ووجهات النظر، والتوجهات والمشارب.

إن العسكري قد يطلب منه تنفيذ مهمة لا يوافق عليها ودون سؤاله عن وجهة نظره حولها، أو موقفه منها، ويتوجب عليه تنفيذها دون مناقشة مادامت قانونية ومن نسق قيادي أعلى، في حين يعتبر تصرفا كهذا من منظور الثقافة الديمقراطية «غير ديمقراطي»، لكن إمعان النظر في طبيعة، وخطورة العمل العسكري الذي تكلف به القوات المسلحة سيدفع إلى فهم أن هذا الأسلوب هو الأنسب للعمل العسكري.

من هنا اعتمد النسق العسكري على الأسلوب البيروقراطي الصارم الذي جاءت الديمقراطية على أنقاضه في المؤسسات الأخرى، لأنه يتلاءم أكثر مع طبيعة المهام التي يضطلع بها العسكريون،

إن الثقافة العسكرية لا تتحمل إشاعة الاختلاف بين العسكريين ولا تتطلب الانتخاب والتمثيل لتمرير الأوامر، وخوض المعاركلتنفيذ التعليمات، رغم أن تلك القيم راسخة في جوهر الثقافة الديمقراطية ومن هنا يتمظهر التقابل بين الثقافتين.

لكن هذا التمظهر لا يشاهد إلا في الجانب الفارغ من الكأس، أما في الجانب الممتلئ فيظهر التكامل بوضوح.

ثانيا/ أوجه التكامل بين الثقافتين 

يقول علي عزت بيكوفتش إن «الأشياء في العالم هي غالبا في علاقات اعتماد، وتبادل وليست في علاقات سبب ونتيجة، وبدلا من أن نراها في علاقة سبب ونتيجة علينا أن نراها في علاقة ترابط» وعليه توجد بين جميع الظواهر المعرفية حتى تلك المتناقضة منها علاقات وتواصل، يصرفنا عن اكتشاف تلك العلاقات وذلك التواصل القالب الجاهز الذي ننظر لها انطلاقا منه في أغلب الأحيان.

وعليه يكون ذلك التقابل الذي استعرضنا سابقا في علاقة الثقافتين العسكرية، والديمقراطية هو مجرد المظهر الخارجي للعلاقة بينما يكمن خلفه مظهر آخر غير منظور توجد فيه الثقافتان في انسجام تام، وتصالح، وتبادل، لكن الصخب الموجود في الخارج، والذي تغذيه ظروف الصراع الموضوعي بين أصحاب الثقافتين يحجبه عنا.

لذلك اخترنا عن قصد أن نسميه «تقابلا»، ولم نسمه «تناقضا»؛ لسبب بسيط هو: أن المجتمعات والدول تحتاج للقوات المسلحة من أجل ضمان الاستقلال، وإدامة الأمن، والدفاع عن الحوزة الترابية، وتحتاج للديمقراطية كذلك من أجل ممارسة حق شعوبها في حكم نفسها بنفسها، والتمتع بالحريات العامة، وعليه لا يمكن لهاتين الحاجتين أن تتناقضا، ومن هنا نجد أن: هذا التقابل الموجود بين أغصان شجرة الثقافتين فوق الأرض هو تكامل متشابك بين عروقهما في أعماق التربة.

إنه من أجل ممارسة الديمقراطية لابد من أمن ودفاع، وبالتالي لابد من قوات مسلحة. ومن أجل تكوين قوات مسلحة قادرة على أداء الدور المنوط بها لابد من نظام ديمقراطي يضمن رجوعها إلى الثكنات، ويعيد لها تصالحها مع مواطنيها، واستعادتها لقيم الشرف في نظرتهم لها وتعاملهم معها.

أبعد من ذلك: فقد أجمع الفقهاء الاجتماعيون على أن العسكري تنازل في «العقد الاجتماعي» عن قدر أكبر من حرياته مقارنة بالمدني خصوصا الحريات المتعلقة بالتعبير( وجهات النظر في القضايا ذات الطابع السياسي، الانتساب للجمعيات النقابية أو الأحزاب)، وهي نفس القيم التي جاءت الديمقراطية لإشاعتها، وذلك من أجل أن يتمتع المواطنون بحرياتهم كاملة داخل أطر الأمن.

من هنا توجد أرضية مشتركة تحتاج للعمل عليها من أجل إرساء قيم التكامل وتبخير فقاعات سوء الظن الخادعة المصاحبة عادة لأوجه التقابل.

ثالثا/ سبل إرساء

 قيم التكامل بين الثقافتين

يمكننا أن نخلص مما تقدم إلى حاجة المجتمعات والدول إلى الثقافتين:

 الثقافة العسكرية لضمان البقاء والدفاع عن الوجود واستدامة الأمن.

 الثقافة الديمقراطية للرقي بأنظمة الحكم وإشاعة مناخ الحريات العامة وحقوق الإنسان.

إن الحاجة إلى الثقافتين تجعلهما متكاملتين، وبالتالي فعلاقة الثقافة العسكرية بالثقافة الديمقراطية هي علاقة تكاملية لأن الديمقراطية والاستقرار [الذي تضمنه القوات المسلحة] شرطان متلازمان: فالديمقراطية ضرورية من أجل الاستقرار، والاستقرار ضروري من أجل الديمقراطية.

هذا الأمر يحتم ضرورة تحسين العلاقة بين الثقافتين من خلال:

 تكوين المتدربين العسكريين على أساسيات الثقافة الديمقراطية، من أجل إثراء مداركهم حول المحيط الذي يعملون فيه مع التأكيد الدائم على أهمية الإبقاء على خصوصيات الثقافة العسكرية، وتعميق فهمهم لها من أجل الرفع من روحهم المعنوية، وزيادة الاعتزاز بمهنتهم وشعورهم بجسامة الواجب الملقى على عواتقهم.

إنارة الرأي العام وإطلاع المثقفين على خصوصية الثقافة العسكرية وفهمها، ضمن أطرها الخاصة جدا دون إسقاطات أو مقارنات واكتشاف أهميتها والتعرف عن قرب على حجم التضحيات، التي تطلب من العسكريين من أجل تثمينها، وذلك من خلال الدراسات والندوات واللقاءات والحوارات وبث المواد التثقيفية على المنابر الإعلامية.

 

مصادر ومراجع:

1/ كتاب (هروبي إلى الحرية) علي عزت بيكوفتش ترجمة إسماعيل أبو البندورة إصدار دار الفكر الطبعة الأولى 2002 الصفحة 26

2/ كتاب (آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي) د ثناء فؤاد عبد الله مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى 1997 الصفحة 21

3/ كتاب (نهاية التاريخ) فرانسيس فوكوياما ترجمة حسين أحمد أمين مركز الأهرام للترجمة والنشر الطبعة الأولى 1993 الصفحة 54

4/ كتاب (علم الاجتماع العسكري) د فؤاد الأغا دار أسامة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2008 الصفحة 58

5/ كتاب (الثقافة : التفسير الانتربولوجي) ادم كوبر ترجمة تراجي فتحي عالم المعرفة الطبعة الأولى 2008 الصفحة 14

6/ كتاب (تاريخ الحضارة) ½ على شريعتي ترجمة حسين نصيري من سلسلة الآثار الكاملة (17) دار الأمير الطبعة الأولى 2006 الصفحة 749

7/ كتاب (المدخل إلى الثقافة العسكرية) ها ني أحمد الدرديري دار منبر التوحيد 2011 الصفحة 29

 

نحو إرساء قيم التكامل بين الثقافتين:

مقدم سيدنا عالي المصطفى أبيه

قائد الناحية الوسطى للدرك الوطني

خميس, 07/11/2024 - 12:58

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك