تعتبر القيادة مطلبا اجتماعيا ضروريا للسَّير المنتظم للحياة، وقد ارتبط ظهور مفهومها بمفهوم السلطة وممارستها قديما، وبالتالي فإنها تعبير طبيعي عن حاجات فردية واجتماعية، لما تجسده لدى الفرد من تلبية دافعية السيطرة والخضوع، وللمجتمع من تدبير وتخطيط حياته.
ولكل هذه الاعتبارات حظي فن القيادة باهتمام كبير من قبل الدارسين على مر العصور نظرا للدور الكبير الذي تطلع به القيادة في نجاح أو إخفاق أي تنظيم، ويتزايد هذا الاهتمام عندما يتعلق بالقيادة العسكرية لأهمية دورها وحساسيته.
وقد ألف كثير من العلماء والباحثين في فن القيادة العسكرية، وتعاظم الطلب منذ القرن الماضي على الكتب والدراسات في فن القيادة عموما، وسنقدم لكم في هذا العدد كتابا من أهم الكتب في هذا الموضوع، وهو كتاب «تولي القيادة: فن القيادة العسكرية وعلمها» للثنائي هيز مدير سابق لشعبة علم النفس العسكري والقيادة في الأكاديمية العسكرية الأمريكية، والمقدم وليم توماس وهو أستاذ مساعد للقيادة في الأكاديمية نفسها، ترجمة سامي هاشم، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في طبعته الثانية: 1989، في 352 صفحة.
ورغم قدم هذا الكتاب نسبيا فما زال يشكل أحد المراجع الهامة للطلاب والضباط والقادة في الأكاديميات والمدارس والوحدات العسكرية، إذ سعى المؤلفان من تأليفه إلى تزويد القادة والطلاب بفهم عميق لمبادئ القيادة العسكرية وكيفية تطبيقها في مواقف مختلفة، من حيث تطوير القدرات القيادية، وتحسين التواصل، وتعزيز الانضباط، ورفع معنويات الجنود.
ولعل من أهم مميزات هذا الكتاب تقديمه لتجارب وآراء ثلاثة عشر ضابطاً مارسوا القيادة بنجاح، ويلخص ذلك بالقول: «هذه المساهمات هي جهد متراكم حول القيادة حاولنا جمعه وتقديمه من أجل تعليم العسكريين في المستقبل وهو ليس نتاج فرد واحد، بل مجموعة من الآراء تمت مناقشتها في الأكاديمية مع خبراء متخصصين».
خطاطة الكتاب
جعل المؤلفان الكتاب مجلدا واحدا يتألف من ثلاثة أجزاء، مع الاحتفاظ بتسلسل الفصول على النحو التالي:
الجزء الأول: وهو مخصص للقضايا المتعلقة بالقائد فردا، ويتكون من خمسة فصول، هي:
مقدمة: تتناول فن القيادة وآراء الفلاسفة والباحثين وما انتهت إليه الدراسات بخصوصها.
الفصل الأول: مفهوم للقيادة قابل للاستعمال؛ ويتناول هذا الفصل تعريف القيادة وأهميتها في السياقات العسكرية.
الفصل الثاني: القيادة من حيث السلوك والأساليب؛ ويركز على المسلكيات والأساليب التي تؤهل القائد للنجاح في مهامه، مع أمثلة وتطبيقات عملية كثيرة ومهمة.
الفصل الثالث: السمات الخلقية للقيادة؛ ويناقش الصفات الشخصية والأخلاقية الضرورية للقائد، مثل النزاهة والشجاعة والانضباط والتواضع...
الفصل الرابع: اختيار القائد وتطويره؛ يتناول هذا الفصل معايير اختيار القائد وكيفية تطوير مهاراته من خلال التدريب والتجربة.
الفصل الخامس: الاتصال بين الأشخاص؛ يتناول هذا الفصل استراتيجيات الاتصال الفعّال بين القادة والجنود لضمان نقل الأوامر والتوجيهات بوضوح وانسيابية واضطراد.
أما الجزء الثاني: فتناول قضايا الجماعة أو المجموعة، ويتكون من الفصول التالية:
الفصل العاشر: الفرد والجماعة؛ ويدرس الديناميكيات بين الفرد والجماعة وأهمية التفاعل الإيجابي بينهم.
الفصل الحادي عشر: تضامن الجماعة وروحها؛ ويركز على كيفية تعزيز الروح المعنوية والتضامن بين الجنود.
الفصل الثاني عشر: التحفيز والمعنويات؛ ويناقش أساليب تحفيز الجنود ورفع معنوياتهم لتحقيق الأداء الأمثل.
الفصل الثالث عشر: الانضباط؛ يتناول أهمية الانضباط العسكري وكيفية تحقيقه والمحافظة عليه داخل الجيش.
الفصل الرابع عشر: العلاقات بين الرئيس والمرؤوس؛ ويركز على بناء علاقات إيجابية بين القادة ومرؤوسيهم لتحسين الفعالية العامة.
أما الجزء الثالث: فأفرد للموقف، ويتألف من الفصول التالية:
الفصل السادس عشر: الجندي في المجتمع؛ ويقدم نظرة على دور الجندي في المجتمع وتأثير ذلك على أدائه العسكري.
الفصل السابع عشر: القيادة في التدريب؛ ويناقش أساليب تدريب القادة والجنود على المهارات العسكرية الأساسية.
الفصل الثامن عشر: القيادة في القتال؛ ويركز على التحديات الفريدة للقيادة في ساحات القتال وكيفية اتخاذ القرارات الحاسمة تحت الضغط.
الفصل التاسع عشر: دراسات المواقف؛ و يقدم دراسات حالات ونماذج وتحليلات مواقف فعلية لتقديم أمثلة عملية على القيادة الفعّالة.
مضامين الكتاب
- يستعرض الكتاب مفهوم القيادة، ويقدم مجموعة من التعريفات الشاملة للقيادة، ويخلص إلى أنها فن التأثير في السلوك الإنساني بغية إنجاز المهمة بالأسلوب الذي يرغب فيه القائد اعتمادا على ميزاته الشخصية، وتأثير المواقف الجماعية، والقوى المحركة للمجموعة. ويفرق بين القيادة والإدارة، ويحدد سمات وشروط كل منهما، ويصنف القادة إلى عدة فئات وفقاً للأسلوب والشخصية وحتى الصدف.
- يتناول الكتاب بالتفصيل دور القائد في تحديد الوجهة، وتقديم الرؤية الاستراتيجية للمؤسسة، ثم يسلط الضوء على الصفات الشخصية التي يجب أن يتحلى بها القائد، مثل: النزاهة، والثقة بالنفس، والتعاطف، والمرونة، والعدل، والثبات.
- يؤكد أهمية الشجاعة في اتخاذ القرارات الصعبة والقدرة على تحمل المسؤولية، والتمييز والحسم، وروح المبادرة، والمعرفة والتواصل الفعّال مع الفريق، بما في ذلك الاستماع النشط، وتوضيح الأهداف والتوقعات.
- يحض على أهمية بناء الثقة بين القائد وفريقه من خلال الشفافية والصراحة، وقيادة الفريق في فترات التغيير والتحديات، مع تقديم تقنيات للتكيف مع الظروف المتغيرة وإدارة الممانعة داخل الفريق.
- يرى المؤلفان أن القائد الملهم هو الذي يحفز فريقه باستخدام أساليب مختلفة لتحفيز الأفراد وتشجيعهم على تحقيق الأداء العالي، ويناقش أهمية التقدير والاعتراف بإنجازات الفريق وأثرها على الروح المعنوية، التي تمثل تلبية احتياجات الفرد والتأكد من مدى الرضا النابع من عمله، فالقائد هو الذي يعرف كيف يحفز فريقه ليساهم في رفع مستوى الأداء والإنتاجية، مع القدرة على تشخيص أسباب انخفاض المعنويات وتصحيحيها.
- يشرح الكتاب منهجيات اتخاذ القرارات بفعالية، مستعرضًا النماذج والأدوات التي يمكن للقادة استخدامها، ويؤكد على أهمية المعلومات والتحليل النقدي في عملية صنع القرار.
- يتحدث عن دور القائد في تشكيل وبناء ثقافة مؤسسية إيجابية. ويوضح كيف يمكن للقيم والمبادئ المؤسسية أن تؤثر على سلوك الفريق وأداء المؤسسة، ويعتبر أن التواصل الفعّال هو مفتاح بناء الثقة وتحقيق التعاون بين أعضاء الفريق.
- القيادة ليست مجرد موهبة فطرية، بل هي مهارات يمكن تعلمها وتطويرها من خلال التعليم والتدريب المستمرين، فيجب على القادة الاستمرار في تطوير مهاراتهم القيادية من خلال التعلم والتجارب المختلفة.
- القادة الناجحون يمتلكون رؤية واضحة واستراتيجية محددة، مما يساعدهم على توجيه الفريق نحو تحقيق الأهداف المشتركة.
- المرونة في مواجهة التحديات والقدرة على التكيف مع التغيرات وإدارة الأزمات تعد من أهم صفات القائد الناجح، فبناء ثقافة مؤسسية قوية وقيم واضحة يساهم في توجيه سلوك الفريق وتحقيق النجاح المستدام.
- القائد هو الذي يعرف كيف يحفز فريقه ليساهم في رفع مستوى الأداء والإنتاجية، مع القدرة على تشخيص أسباب انخفاض المعنويات وتصحيحيها.
- القرارات المبنية على تحليل دقيق ومعلومات موثوقة تؤدي إلى نتائج إيجابية وإلى اتخاذ القرارات بحكمة، مع إشراك الفريق في صنع القرار لتعزيز الالتزام والابتكار، داخل الفريق.
- القائد العسكري مطلوب منه الالتزام بالمعايير كافة أكثر من غيره نظراً لخصوصية مهمته وخطورتها، حيث يتولى المسؤولية الخلقية عن تسيير قوة حربية.
- المؤهل الأساسي للقائد الكفء هو المقدرة على التعرف على القادة من مرؤوسيه واختيارهم وتطويرهم.
- الولاء والطاعة شرطان ضروريان للمرؤوسين لانسيابية العمل ومرونة اتخاذ التدابير اللازمة.
- الإدارة عنصر أساسي من عناصر القيادة العسكرية، وهي علم استخدام الأفراد والموارد باقتصاد فعال لإنجاز مهمة ما، لذلك يعد القائد مدير ا من هذا الوجه.
- يعتبر التخطيط هو الوسيلة المثلى لتوجيه التنظيم من الحاضر إلى المستقبل بغية تحقيق أهداف ما، أو إنجاز مهمة معينة، والتخطيط الجيد يمر بخطوات أساسية هي: التنبؤ والتقدير وإعداد الخطط.
- يعتبر التنظيم من أساسيات القيادة، إذ لابد من تنظيم المجموعة وتكييفها على الوجه الأنسب لتحقيق واجباتها ومهامها، ومن المعلوم أن التنظيم مبني على ثلاث خطوات أساسية هي: تحديد المهمات، وإقامة البنية، وتوزيع الموارد.
- التوجيه والسيطرة عنصران ملازمان لعملية تنفيذ التخطيط والتنظيم والتنسيق، فالتوجيه إبلاغ القائد مرؤوسيه خططه التنفيذية، والسيطرة هي الوسيلة التي يستعملها لتقرير ما إذا كانت تعليماته يجري وضعها موضع التطبيق، وتتحقق السيطرة في خطوات ثلاثة تحديد المقاييس، ومقارنة الإنجاز الحقيقي بالمقاييس، واتخاذ الإجراءات التصحيحية.
- الجماعة أو المجموعة جزء محوري في فن القيادية، إذ القيادة لسيت في النهاية سوى ظاهرة للتفاعل الاجتماعي.
- القيادة الفعالة لا يمكن بناؤها إلا على فهم كامل لأفراد المجموعة، وفهم كيف تكون تلك الجماعة وطبيعتها والعوامل المؤثرة فيها، واعتبار كل جندي سواء كان قائدا أو تابعا هو فرد من جماعة، يحتاج لروح الجماعة التي تتأتى من تضامنها والاندماج المنظم بين أفرادها.
- القائد يضع نصب عينيه أهدافه ومهماته، وسبل تحقيقها، وتمر تلك المهمة حتما بتوفر الرضى لرجاله، والاعتماد على مشورتهم، مع القدرة على التحكم في تقليل التناقض بين دور القائد كآمر وضامن للانضباط، واعتماده على المشورة والأخذ برأي مجموعته من خلال إدراك الأهداف التي يجب تحقيقها والطرق الفنية المتاحة للاستخدام في تقديم المشورة.
- يتحدث الكتاب عن القيادة أثناء التدريب، من حيث فلسفة التدريب وأسسه وإدارة الأفراد أثناءه، لكن القيادة أثناء القتـــــال أخذت حيزا أوفر، إذ هي الاختبار الحقيقي للقيادة العسكرية لكونها تفرض على القائد وفريقه اتخاذ المواقف الحاسمة بكل سرعة وجرأة واجتهاد، وسط تحديات كبيرة وقوية، لعدم قدرة التدريب على نسخ بيئة القتال بصورة تامة، فلا يمكن اصطناع الخوف الذي يسيطر على مشاعر المقاتلين أثناء المعارك، عدا محاولة قهر الخوف في نفوس الجنود بالتوجيه الحسن والتدريب والتوازن العاطفي.
- الحروب الحديثة تتطلب قدرا عاليا من المرونة لدى القائد ليتسنى له تنظيم وحداته بصورة تلائم الموقف، كما تتطلب معرفة تامة بكيفية الاستخدام المعقلن والفعال للرجال والمعدات في أنجاز المهمة.
- يختم الكتاب بعرض مفصل لجملة من المواقف والتجارب الميدانية التي وقعت بالفعل مع إعطاء حلولها تعميما للفائدة وإيضاحا لطريقة دراسة المشكلات والتسلسل المنطقي المفترض.
الخلاصة
عرفت الدراسات التي اتخذت من القيادة موضوعا لها عدة اتجاهات ومدارس، كان آخرها ظهورا مدرسة العلاقات الإنسانية مع مكس فايبر، وتميزت بالتركيز على سـلوك القائد خلال ممارسته لتوجيه أنشطة الجـماعة نحو تحقيق الأهداف المتوخاة منها، وحصرت القيادة في إطـار التفاعل في التـأثير بين القائدة وجماعته.
ولهذه المدرسة ينتمي كتاب فن القيادة العسكرية الذي اعتبر أن القيادة ليست سوى ممارسة سلوكية طبيعية، بالرغم من تعقدها، لا تنتمي لبراعات خارقة بقدر ما تخضع لمؤهلات ذاتية ومعارف وتجارب وخبرات، مع أن القيادة العسكرية لها متطلباتها الخاصة نظرا لتعقد المواقف الميدانية والتطورات الهائلة التي عرفتها الحروب الحديثة.
يعد الكتاب مرجعا مهما للطلاب في الأكاديميات العسكرية ومدارس الضباط، حيث يقدم لهم فهما شاملا للتحديات والمسؤوليات التي تتطلبها القيادة العسكرية، ويساعدهم على تطوير المهارات اللازمة للتأثير على الآخرين وتوجيههم بشكل فعّال من منظور علمي وتجريبي.
قراءة في كتاب:
«تولي القيادة: فن القيادة العسكرية وعلمها»
يقدمه الدكتور: حماه الله ميابى