معضلـــة الســـاحل.. التجليات والتداعيات

مع بداية الألفية الثالثة، بدأت تتشكل ملامح أزمة متعددة الأبعاد في منطقة الساحل والصحراء، هي ما بات يُعرف لدى الباحثين والمهتمين وصناع القرار بمعضلة الساحل.

يستعرض هذا الركن التدابير الرامية إلى احتواء خطر التطرف والجريمة المنظمة الناجم عن هذه المعضلة، واستنطاق الواقع والسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية.

و سنحرص في هذه الفسحة على أن تجد النخبة العسكرية والمدنية مقالات ودراسات وتحليلات جادة، تقدم إجابات على جملة الأسئلة والتساؤلات التي تعج بها منطقة الساحل منذ ما يزيد على العقدين من الزمن..

أزمــة المـــؤسســـات

في فضاء الساحل الصحراوي

د.سيدأعمر ولد شيخنا

مدير المركز الإقليمي للأبحاث والاستشارات

يجمع المراقبون على أن هناك أزمة عميقة في فضاء دول الساحل الصحراوي بل في عموم الحزام الممتد من البحر الأحمر وحتى الأطلسي، وأن حالة الصراعات وعدم الاستقرار الحالية لها جذور عميقة تتعلق ببنية الدولة وشرعية المؤسسات، وليس فقط تحديات الإرهاب والانقسامات الإثنية والصراعات والطموحات السياسية فتلك أعراض للمرض وليست هي المرض.

لقد وصل عمر الدولة الوطنية المستقلة في الفضاء الساحلي إلى منتصف العقد السابع وهي فترة كافية-نسبيا-لنضج الدولة وصلابة مؤسساتها، كما عرفت هذه البلدان منذ مطلع التسعينات انطلاق مسارات تحول ديمقراطي فقامت بوضع دساتير ديمقراطية وتعددية حزبية وإعلامية وإجراء انتخابات تنافسية وقيام مؤسسات سياسية منتخبة، مما خلق أملا في ترسيخ دولة المؤسسات القادرة على مواجهة مختلف التحديات بكفاءة في مناخ من الاستيعاب والتشارك، لكن تلك الآمال العراض تبخرت للأسف، ورست معظم تلك المسارات الديمقراطية في خانة المنطقة الرمادية، حيث انتهت عملية «التحول» إلى حالة من الجمود الديمقراطي (نظام هجين)، بمعنى أن النظام السياسي لم يعد تسلطيا صرفا - كما كان - ولكنه لا يسير بوضوح نحو الترسيخ الديمقراطي، قبل أن تنزلق الأوضاع إلى حالة جديدة بعيدة كل البعد عن الديمقراطية وحكم المؤسسات، بل أصبحت الأوطان ذاتها سيادة واستقرارا على المحك بشكل غير مسبوق.

فكيف نفهم الأسباب العميقة لأزمات الساحل الصحراوي؟ ولماذا تراجعت الديمقراطية في هذه البلدان حتى أرتكست إلى الحضيض؟.

يخلص خوان لينز (Juan J. Linz) وألفرد استيفان (Alfred Stepan) في بحثهما حول «مشاكل التحول الديمقراطي وتوطيده إلى ملاحظة جوهرية مفادها أن «الديمقراطية نظام لإدارة الدولة، ولكي يثبت هذا النظام فاعليته يتطلب ذلك وجود الدولة أولا» .لقد تناولت دراسات حديثة أسباب تعثر مسار الترسيخ الديمقراطي في بعض بلدان العالم الثالث واستقرارها في خانة النظم الهجينة (الرمادية)، وقد أكدت هذه الدراسات استنتاجا رئيسا يشير إلى الدور الخطير الذي يلعبه «ضعف الدولنة» في إعاقة التحول الديمقراطي. لقد أدت المشكلات المقترنة بالتحول الديمقراطي في الدول الضعيفة إلى توصية من نوع مختلف، وهي توصية تؤكد «الدولنة أولا» بمعنى أنه «قبل أن تكون قادرا على تحقيق الديمقراطية أو التنمية الاقتصادية، لا بد من أن تكون عندك دولة» .

يعاني التحول الديمقراطي في دول الساحل الصحراوي من معوقات جمة مرتبطة ببنى المجتمع عنوانها الأبرز «ضعف الدولنة» وتجلياته المجتمعية والمؤسسية. وتعود الجذور المؤسسة لعاهة «ضعف الدولنة» في الحالة الساحلية-الصحراوية إلى أسباب عميقة ومتداخلة، ويشكل إخضاع هذه العاهة المزمنة للتشريح التاريخي والسياسي والسوسيولوجي أولوية استراتيجية وحضارية.

وفي البدء ينبغي الاسترشاد في عملية البحث هذه بالملاحظة البحثية التي سجلها ج. بلاندييه منذ العام 1959، والتي أكد فيها أن تحليل الوضع الراهن للمجتمعات الإفريقية يشكل نتاج تاريخ ثلاثي «جمع إسهاماته»: تاريخ ما قبل الاستعمار، والتاريخ الاستعماري، وتاريخ ما بعد الاستعمار تتمثل الأسباب القريبة المؤسِّسة لضعف الدولنة إلى الطريقة التي غرست بها الإدارة الاستعمارية الدولة في التربة المحلية، فظهرت الدولة في الفضاء الساحلي كنبتة خارجية موروثة عن الاستعمار ولم تكن تطورا تاريخيا طبيعيا، ولا تعبيرا عن خصائص المجتمع وتكويناته الاجتماعية والحضارية، وهو ما شكل السياق التاريخي والموضوعي للمسار المتعثر لعملية بناء «الدولة-الأمة».

تناولت دراسات حديثة أسباب تعثر مسار الترسيخ الديمقراطي في بعض بلدان العالم الثالث واستقرارها في خانة النظم الهجينة (الرمادية)، حيث لم تعد دكتاتورية تقليدية ولا هي ماضية بوضوح نحو الديمقراطية. «إن العديد من الدول المصنفة في المنطقة الرمادية هي دول ضعيفة. وقد تدير هذه الدول العمليات السياسية بدرجة مقبولة من الديمقراطية، لكن مشكلة الدولة الضعيفة تعوق أي تقدم نحو ترسيخ الديمقراطية. لذا، فإن عملية إرساء الديمقراطية الناجحة تتطلب من هذه البلدان أن تطور «دولنة» أعمق، أي أن تصبح دولا أكثر قوة.

في هذا المناخ المتردي والمتسم بضعف الدولة وتخلفها يتضح أن الأسباب العميقة لإعاقة التحولات الديمقراطية كما يقول الدكتور برهان غليون: «لا تعود إلى مقاومة الجمهور الشعبي أو المجتمع الأهلي لفكرة الدولة الحديثة، دولة الحرية والقانون والمواطنة، وإنما إلى فشل الدولة ... وهذه هي النتيجة الحتمية لإخفاق الدولة التحديثية في تحقيق مشروعها والانقلاب عليه قبل النزوع إلى الحلول محله وتغييبه بشكل كامل. ففي الحالات كلها التي حصل فيها هذا الإخفاق تحولت الدولة إلى حاضنة ومنتجة لطبقة طفيلية مفصولة عن الشعب ومعادية له»، وبذلك تحقق هذه الدول بامتياز استحقاق «الدولة الضعيفة» التي يعرفها «مغدال» (J. Migdal) بأنها تعادي المجتمع وتناهض قواه الحزبية وتنظيماته المدنية. وبما أن «الدولنة» شرط سابق لسيرورة تحول ديمقراطي ناجحة، فإن آفاق الانتقال الديمقراطي تتراجع عندما يختل هذا الشرط.

ومن المهم هنا الإشارة بشكل رئيسي إلى أن الدولة في الساحل الصحراوي تندرج ضمن الصنف الذي يسميه عالم الاجتماع الموريتاني عبد الودود ولد الشيخ بـ «الدولة المستوردة»؛ أي تلك الدول التي تم زرعها في إفريقيا جنوب الصحراء خلال الحقبة الاستعمارية وهو صنف شائع وله نماذج شبيهة في العالم العربي كانت فيها عملية بناء الدولة الحديثة (أو إرادتها على الأقل) مساوقة لحدث الاختراق الاستعماري. لقد فرضت «الدولة المستوردة» بمؤسساتها القانونية والسياسية على المجتمع من أعلى وبالقوة.. وفي كثير من الأحيان تم انتقال مؤسسات القهر من العهد الاستعماري إلى عهد الاستقلال تقريبا من دون تغيير يذكر.

هذه الولادة للدولة ضمن السياق الاستعماري وما تخلله من مساوئ وتحديث مشوه، قد خلق حالة مبكرة من التوجس والريبة بين المجتمع من جهة والدولة التي خرجت من الرحم الاستعماري في حالة أشبه بـ «العملية القيصرية»، ويرجع بعض الدارسين هذه الحالة إلى سبب رئيس يتمثل في أن «الدولة في هذا النموذج لا تعبر عن خصوصية ثقافية ولا عن تطور تاريخي طبيعي، ولا عن خصائص المجتمع وتكويناته الاجتماعية والحضارية».

قُدّمت تعريفات عدة للدولة القوية والدولة الضعيفة أبرزت معايير ومحددات قوة الدولة أو ضعفها من زوايا مختلفة، فـ «جويل مغدال» (J. Migdal) في تصنيفه للدولة من منظور العلاقة بالمجتمع، يعتبر «الدولة القوية بالنسبة إليه هي ذات التغلغل في مجتمعها، والتي تكون قيمها السياسية والاقتصادية في مصلحة مجتمعها، وتعلي قيم المواطنة والتضامن والثقة بين مكونات المجتمع المختلفة. كما تعلو في هذا المجتمع الروابط الأفقية القائمة على القواسم الفكرية والسياسية المشتركة، والمؤطرة في الأحزاب السياسية والنقابات وتنظيمات المجتمع المدني. وتتكامل فيه تنظيمات المجتمع مع الدولة، في تحقيق أهداف المجتمع ومصالحه، ولا يقوم الخلاف بين الدولة وهذه التنظيمات على أسس شخصية أو دينية أو قبلية وعرقية، وإنما على أساس اختلاف طبيعة البرامج والسياسات.

ويربط "مغدال" (J. Migdal) هذه الشروط بالمجتمعات التي قطعت شوطا على طريق الديمقراطية».

وفي المقابل، فإن الدولة الضعيفة، وفق «مغدال»

(J. Migdal)، هي العاجزة عن تنمية مجتمعها وتحقيق مصالحه. وهي في هذا تتخذ موقفا عدائيا منه وتناهض تنظيماته المدنية وأحزابه السياسية، فتنعدم الثقة بالدولة. وتنزع الدولة في هذا النموذج نحو تكريس الروابط العمومية القائمة على القبيلة والعشيرة والدين والانتماءات الإثنية الأخرى، وهو ما يكون مجتمعا ضعيفا تتكرس فيه الإخفاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وينتشر فيه الفساد والمحسوبية، ويعمل أفراده من أجل مصالحهم الشخصية وتوزيع المنافع والخدمات في ضوء انتماءات الأفراد الإثنية، ومدى قربهم من مركز السلطة أو من الممسكين بها.

وكان هذا هو السياق التاريخي الذي جعل الدولة الحديثة في إفريقيا جنوب الصحراء الحديثة بعد ستة عقود على الاستقلال تتموقع بهدوء في خانة الدول الضعيفة التي «تفتقر بيروقراطيتها إلى الكفاءة وينخرها الفساد، وتسعى فيها القيادة السياسية إلى تحويل جهاز الدولة إلى مصدر دخل شخصي» ولا تزال السمة العامة لجهاز الدولة (أي مؤسسات الحكومة على جميع المستويات) هي الافتقار إلى المؤسسات الفعالة وسريعة الاستجابة. ويشير عالم السياسة الأمريكي «فرانسيس فوكوياما» (Francis Fukuyama) إلى أن «دولة قوية لا تعني بالضرورة تدخلها بشكل واسع في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية. بالأحرى، تتمثل الصيغة المثالية للديمقراطية والتنمية في دولة تعالج قدرا محدودا من الوظائف بشكل فعال، لكن تؤديها بدرجة عالية من السلطة، والقدرة والفاعلية». لقد أضحى عدم الفاعلية صفة لصيقة بمؤسسات بمعظم دول فضاء الساحل الصحراوي، بل العجز عن القدرة على صوغ السياسات وتنفيذها والإشراف عليها، وظل الكثير من هذه البلدان يعاني من الشلل والتكلس وضحالة المردودية. ثم انحدرت لاحقا مؤسسات الدولة إلى مستويات كارثية من الفساد والمحسوبية والعجز، وظل التعيين في إدارة مؤسسات الدولة بمستوياتها المختلفة يخضع لمعايير آخرها الكفاءة والاستحقاق المهني في الغالب الأعم، ولذا أضحت هذه المؤسسات الحكومية «بطيئة الاستجابة»، ولا تدار لمصلحة الجماعات الرئيسة في المجتمع= (لا تتمتع بمساندتها). فحاجات ومطالب القطاعات المجتمعية في الرفاه الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والصحة والتعليم... إلخ، لا تمثل أولوية قصوى لدى هذه المؤسسات التي انحرفت عن غاياتها الأصلية، بعد أن تم اختطافها والاستحواذ على منافعها من قبل مجموعات بيروقراطية ذات امتدادات أوليغارشية بعيدة كل البعد عن منطق وممارسات البيروقراطية المحايدة التي يعول عليها في تقديم الخدمة العامة للسكان.

يخلق الواقع الصعب الذي آلت إليه مؤسسات الدولة في إفريقيا يقينا بعمق التحديات التي يثيرها «ضعف الدولنة» كمعوق رئيس للتحول الديمقراطي الناجح، ففي كتاب صدر مؤخرا يتناول مؤلفه، عالم السياسة الأمريكي فرنسيس فوكاياما، المشكلات المقترنة بالتحول الديمقراطي في الدول الضعيفة يخلص إلى توصية من نوع مختلف، وهي توصية تؤكد «الدولنة أولا»، ويحدد «فوكوياما» العناصر الأربعة المختلفة التي تنطوي عليها عملية بناء الدولة (المقصود ببناء الدولة هنا إنشاء مؤسسات فعالة وسريعة الاستجابة)، وهي: (1) التصميم والإدارة الناظمان، (2) تصميم النظام السياسي المعني بالمؤسسات على مستوى الدولة برمتها، (3) أساس الشرعية المعني بتصور المجتمع لمؤسسات الدولة كمؤسسات شرعية، و(4) العوامل الثقافية والبنيوية المعنية بطرق تأثير المعايير والقيم والثقافية في طبيعة المؤسسات».

ويري فوكوياما أن العوامل الاجتماعية والثقافية، وإلى حد ما عوامل الشرعنة، لا يجري تغييرها بسهولة على المدى القصير والمتوسط، كما أنها لا تتحول بسهولة بتأثير من القوى الخارجية كلما تحولت المعونات. ونتيجة لذلك، يجب علينا أن نتوقع استمرار مشكلات ضعف الدولة في العديد من البلدان لبعض الوقت. وتعني هذه المشكلات أن محاولات إرساء الديمقراطية تواجهه صعوبات خطيرة، فضعف الدولة يجعل خروج البلدان من المنطقة الرمادية أمرا غير محتمل، وفي أسوأ الحالات رأينا بلدانا تتنقل نحو الانهيار بالكامل.

يشكل ضعف الدولنة أكبر تحديات قيام تحول ديمقراطي حقيقي، وهو يساهم في بقاء البنيات الديمقراطية مجرد واجهة، «إن انتصار الديمقراطية والسير قدما نحو الازدهار يقف وراءهما القضاء على الشطط في السلطة، ومنح فرص الانفتاح السياسي واقتصاد السوق، وإخضاع الميولات المفترسة بشكل طبيعي لدى الحكام للقوانين غير الفردية المحايدة والمؤسسات. وتدعو الحاجة إلى ابتكارات عديدة للسير بمجتمع ما من دولة قاسية ومنغلقة إلى دولة منفتحة وديمقراطية».

أولا: يجب بناء العلاقات الأفقية للثقة والتعاون، وبشكل مثالي، عبر الخطوط العرقية والإقليمية الفاصلة لتحدي الترتيبات النخبوية والحكم الفردي. ويتطلب ذلك بناء مجتمع مدني كثيف وصارم يقوم على منظمات مستقلة ووسائل إعلام ومراكز التفكير وصحافة ذات اهتمامات شعبية وترفع من وعي المواطن، وتكسر روابط الزبونية، وتتفحص سلوك الحكومة وتضغط من أجل إقرار إصلاحات جيدة في الحوكمة.

ثانيا: لابد من بناء مؤسسات فعالة للحوكمة لتقييد تصرفات الحكام اللامحدودة تقريبا، وإخضاع قراراتهم وصفقاتهم للتفتيش، ومساءلتهم أمام القانون، والدستور، والاهتمام الشعبي. وهذا يعني بناء مؤسسات ذات مسؤولية عمودية وأفقية، بحيث يتمثل بناء المؤسسة الأولى من المسؤولية العمودية في الانتخاب الديمقراطي الحقيقي التي يستطيع فيها المواطنون تقييم سلوك المسؤولين، واستبدال أولئك العاجزين بأولئك الذين يُظهرون كفاءة عالية. بهذا المنطق، لا يعد مسؤولو الدولة حكاما يخضع الشعب لسلطانهم، وإنما هم موظفون لدى الشعب ولابد من الاستجابة لمطالبهم.

أما المظهر الثاني من مظاهر ضعف الدولنة في فضاء الساحل الصحراوي والبلدان الشبيهة والذي يمثل أحد جذور الأزمة الحالية فهو التعثر في بناء «الدولة–الأمة» أي الفشل في تحقيق اندماج مجتمعي وتكامل قومي وهي الوضعية التي تبرز بجلاء في بعض بلدان الساحل وفي غيرها من الدول المصنفة في خانة الدول الضعيفة، «ففي هذه الدول لا يؤلف السكان مجتمعا وطنيا متماسكا. فالمجتمع الوطني عبارة عن مجتمع ذي وجدان مشترك، ولغة مشتركة وهوية ثقافية وتاريخية مشتركة... بل إن المجتمع ذا الوجدان المشترك هذا لا يحظى تطويره باهتمام كاف في الدولة الضعيفة. عوضا عن ذلك، تطغى على الهوية الوطنية الهويات العرقية المرتبطة بالخصائص القبلية والدينية والعرقية والفئوية». إذ من المجمع عليه بين المختصين في علم السياسة والانتقال الديمقراطي أن غياب المجتمع الوطني يمكن أن يكون مانعا حقيقيا لعملية التحول الديمقراطي، وهذا هو فحوى مفهوم «رستو» لـ «الوحدة الوطنية» كشرط مسبق للانتقال الديمقراطي. وللتذكير يعتمد نموذج «رستو» شرطا واحدا يعد خلفية له، ألا وهو الوحدة الوطنية التي لابد من أن تكون في وضعها السليم قبل أن يكون تصور الانتقال إلى الديمقراطية ممكنا. وبحسب «رستو»، تشير الوحدة الوطنية بكل وضوح إلى «وضع تكون فيه» الأغلبية العظمى من المواطنين في ديمقراطية المستقبل... لا يخالطها أي شك فيما يخص المجتمع السياسي الذي تنتمي إليه، ولا تراودها أي تحفظات حول انتمائها إلى المجتمع السياسي هذا. وقد توجد انقسامات عرقية، أو انقسامات ذات طبيعة أخرى، بين الجماعات التي يتألف منها السكان. وفي حال قادت هذه الانقسامات إلى تشكيك جوهري بالوحدة الوطنية، يجب عندئذ حل المشكلة أولا كي يتيسر الانتقال إلى الديمقراطية».

وتعود أسباب الفشل في بناء مجتمع متماسك ومندمج في الدول حديثة النشأة إلى جملة من العوامل المتداخلة، من بينها طريقة رسم حدود الكيانات الجديدة التي أشرف عليها الاستعمار بعشوائية ممزوجة بمكر، مما خلق العديد من الصعوبات في سبيل تحقيق تكامل قومي حقيقي في مجمل الدول حديثة النشأة. حيث يتم خلال عملية الترسيم هذه تقسيم الشعب الواحد إلى عدة كيانات بل وأحيانا تقسيم القبيلة الواحدة بين عدة دول. وقد ارتأى بعض الأنتروبولوجيين والمؤرخين أن جذور أغلب النزاعات التي عصفت بالقارة ينبغي البحث عنها في الماضي الاستعماري لإفريقيا وفي الطريقة التي تم بها تقطيع القارة «عرقيا»، وسيَّرتها بها القوى الاستعمارية الأوربية أما الأثر الاستعماري الثاني المؤسس لصعوبات الاندماج فيتمثل في إرث السياسات الاستعمارية المجسدة لمبدأ «فرق تسد» ودورها المبكر في إحياء النعرات، والعزف على التناقضات الاجتماعية كما جسدتها سياسات «الأعراق» و"الإشراك"، ففي هذه المجتمعات المتراتبة داخليا يتم إذكاء الصراعات من أجل لعب دور الحكم، ويدعم الضعيف من أجل إضعاف القوي.

ويؤكد غيورغ سورنسن (George Sorensen)، في أبحاثه حول التحديات المرتبطة بالدول الضعيفة وعلاقة ذلك بالتحول الديمقراطي، أنه عندما تفشل الدولة في أداء وظائفها يحدث أمران: أولا، يلجأ الناس إلى كيانات أخرى لإشباع احتياجاتهم المادية والمعنوية، ففي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى اتجهوا، في المقام الأول، إلى المجتمعات العرقية التي تشكل المحور الرئيس لـ(الاقتصاد الأخلاقي)، (والاقتصاد الأخلاقي يمكن الأفراد، في سياقاتهم المختلفة، من الاعتماد على شبكات معونة متبادلة غير بيروقراطية، ومن مد يد العون بالمثل إلى أولئك الذين ينتمون إلى مجتمع مشترك. وتشمل الأمثلة الأفراد الأيسر حالا ممن يساعدون أقاربهم وأفراد عشيرتهم في إيجاد وظائف، أو في دفع رسوم المدارس، وكذلك الإسهامات الدورية في حفلات الزفاف والجنائز، حتى إن كانت المساعدة لأشخاص لم يلتقوهم وجها لوجه من قبل). أما الأمر الثاني فهو أن أواصر الحقوق والواجبات بين الشعب والدولة لا تتطور، ونتيجة لذلك، لا تنضج أواصر الولاء التي تقود إلى شرعية الدولة. وعندما تصبح المجتمعات العرقية المحور الرئيس لإشباع احتياجات الناس، تتدفق أشكال الولاء كافة في ذلك الاتجاه، ما يعزز الهويات العرقية.

لقد أدى التحول الديمقراطي إلى زيادة احتمالات عرض الجماعات العرقية المختلفة لوجهات نظرها وصوغ مطالبها، وكانت النتيجة لذلك- مرارا وتكرارا- قدرا أكبرَ، وليس أقل من الصراعات بين الجماعات. كما قد تتعمد نخب الدولة تعزيز صلاتها بالجماعات العرقية، في محاولة منها للوصول إلى الحكم أو الحفاظ عليه.

وفي نظرنا فإن الحل يكمن في انتهاج رزمة تدابير إصلاحية متكاملة، تعمل على الترسيخ الديمقراطي بما يضمن تعزيز مسار الحقوق والحريات، والتمكين للفئات المجتمعية المختلفة من المشاركة الواسعة في صنع السياسات العامة، ولكن في نفس الوقت العمل على تجاوز سياسات الهوية والتركيز على الأهداف الإنمائية على أوسع نطاق وعلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية، وتطبيق إستراتيجية تمييز إيجابي - لفترات محددة قابلة للتمديد- لضمان المساواة في الفرص وتحقيق نتائج إيجابية للأعراق والمناطق والمجموعات المهمشة، ويتم ذلك عبر تخصيص حصص لها في المؤسسات التعليمية والوظائف الحكومية، وحتى مقاعد في مجالس البرلمان والدوائر الحكومية، حتى يحصل الاطمئنان على تقدم المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية الخاصة بهذه المجموعات.

وإلى جانب الترسيخ الديمقراطي وانتهاج سياسات إنمائية تعطي الأولوية للفئات المهمشة، يستمر العمل على «بناء دولة حديثة بمؤسسات فاعلة مستقلة، تقف على الحياد من الصراع المجتمعي، تنظمه وتحميه ولا تتدخل فيه، وتحترم الهوية الوطنية من دون قمع الهويات المختلفة، وتسعى لصهر المجموعات في بوتقة عبر المدرسة والإدارة من دون تمييز اجتماعي أو عرقي أو طمس لخصوصية الجماعات الثقافية».

وهو ما يتطلب بناء المناخ الثقافي- السياسي الذي تفرضه تحديات نجاح عملية بناء «الدولة–الأمة»، «فالطبيعة الثقافية والسياسية للدولة هي التي تحدد قدرتها على تبني نهج إدماج مكوناتها المختلفة بواسطة عمليات سياسية وبرامج اقتصادية تبتدعها الدولة، فكلما اتسعت عمليات الإدماج بمستوييها السياسي والاقتصادي، وشملت في ذلك المكونات الاجتماعية والثقافية المختلفة ضمن أطر قانونية لا شخصانية فيها واضحة المعالم، استطاعت الدولة تجاوز إحدى معضلات استقرارها، وربما قدرتها على الاستمرار والتكيف».

 

 

أهم المصادر والمراجع

 

-. Book Summary: Juan J. Linz and Alfred Stepan , Problems of Democratic Transition and Consolidation, Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1996.

Summarized by Tim Weaver, June 2006.

Comments and revisions by Shelli Gimelstein, June 2013.

http: //www. fpri. org/articles/2013/07/problems-democratic-transition-and-consolidation-book-summary

غيورغ سورنسن، الديمقراطية والتحول الديمقراطي.. السيرورات والمأمول في عالم متغير، ص 107.

جان فرانسوا بايار: سياسة ملء البطون، سوسيولوجية الدولة الإفريقية، ترجمة حليم طوسون، القاهرة، دار العالم الثالث، ط، ع 1، 1992. ص 10.

- غيورغ سورنسن، الديمقراطية والتحول الدمقراطي.. السيرورات والمأمول في عالم متغير، ترجمة: عفاف البطاينة، سلسلة ترجمان، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ط1، أبريل2015، ص 103.

- برهان غليون: المحنة العربية الدولة ضد الأمة، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الرابعة، بيروت سبتمبر2015. ص 10.

- عبد الودود ولد الشيخ: القبيلة والدولة في إفريقيا، ترجمة: محمد بابا أشفغ، أوراق الجزيرة رقم 32، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، مركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2013، ص 64

- سعيد بنسعيد العلوي والسيد ولد أباه، عوائق التحول الديمقراطي في الوطن العربي، بيروت، دار الفكر المعاصر، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص 61.

- عبد الجبار أحمد عبد الله معوقات الديمقراطية في العالم الثالث، بيروت الدار العربية للعلوم ناشرون، دار العرب للنشر والتوزيع ط1، 2015 ص 31.

- علي الدين هلال، إشكالية الدولة والديمقراطية في العالم الثالث، ضمن أعمال «أزمة الديمقراطية في الوطن العربي» منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984، 48.

- مي مجيب عبد المنعم مسعد، الأقباط ومطالبهم في مصر بين التضمين والاستبعاد، جدلية الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت مايو2014، ص 79.

- مي مجيب عبد المنعم مسعد، مصدر ساق، ص 92-94.

- غيورغ سورنسن، مصدر سابق، ص 105.

- Francis Fukuyama, State-Building: Governance and World Order in the 21st Century (Ithaca, NY: University Press, 2004).

- جان فرانسوا بايار: سياسة ملء البطون، سوسيولوجية الدولة الإفريقية، ترجمة حليم طوسون، القاهرة، دار العالم الثالث، الطبعة العربية الأولى، 1992، ص 8.

- نزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة أمجد حسين، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2010م، ص 25، نقلا عن: باقر سلمان النجار، الدولة العربية بين إخفاقات البناء وتعطل الاندماج، جدلية الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، مجموعة مؤلفين، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت مايو2014، ص 60.

- Francis Fukuyama, State-Building: Governance and World Order in the 21st Century (Ithaca, NY: University Press, 2004).

- غيورغ سورنسن، مصدر سابق، ص 107-108.

- لاري دايموند، روح الديمقراطية، الكفاح من أجل بناء مجتمعات حرة، ترجمة عبد النور الخراقي، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2014، ص 455.

- غيورغ سورنسن، الديمقراطية والتحول الديمقراطي، ص 104.

- غيورغ سورنسن، مصدر سابق، ص 78.

- عبد الودود ولد الشيخ، القبيلة والدولة في إفريقيا، ص 41.

- فرانسيس دي شاسيه، موريتانيا من سنة 1900 إلى سنة 1975، ترجمة: محمد بن بوعليبه بن الغراب، انواكشوط، دار النشر جسور، 2013، ص 56.

- غيورغ سورنسن، مصدر سابق، ص 105-106.

- غيورغ سورنسن، الديمقراطية والتحول الديمقراطي، ص 106.

- حماه الله ولد السالم، أزمة الدولة الوطنية وفشل الاندماج وتحقيق المواطنة في موريتانيا، جدلية الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، ص 563.

- باقر سليمان النجار، الدولة العربية بين إخفاقات البناء وتعطل الاندماج، جدلية الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي ص 53.

 

اثنين, 12/08/2024 - 11:47

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك