المقاومة هي فعل تحرر ونزوع نحو الانعتاق والندية.. هي حقبة حبلى بمعاني التضحية والإقدام والشجاعة.. هي إرادة متمنعة على التطويع والترويض، إنها تجسيد لتمسك أهل هذه الأرض بجذورهم التي تمدهم دوما بعناصر القوة والتحدي..
في هذه الفسحة سنحدثكم عن أبطال، مروا بنا ذات يوم من أيام مجد هذه الأمة، وتركوا أثرا عظيما... أبطال زرعوا بأيديهم الطاهرة بذرة الوطنية الأولى في هذا الأديم، وتعهدوها بدمائم الزكية...
سنحدثكم عن أساليب قتالية مبتكرة، تفتقت عنها عبقرية محاربين أشداء، وهم يقارعون بصدورهم العارية آلة البطش الاستعمارية على مدى ثلاثة عقود من الزمن، ليكتبوا فصلا جديدا في سفر الفن الحربي والتاريخ العسكري...
أدب المقاومة في موريتانيا
( 1854– 1934م)
بقلم أ.د. محمد الحسن محمد المصطفى
أستاذ جامعات في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة نواكشوط
مقدمة
الإبداع الأدبي تجربة لغوية جمالية صادرة عن فرد ضمن مجموعة بشرية، وهي موجهة إلى متلق أو مجموعة متلقين في بلد، أو مدينة أو قرية، أو إقليم وصولا للعالم الواسع، وكونه فعالية جمالية إبداعية صادرة من أديب مرهف الإحساس، متقد الموهبة، عميق الثقافة لا يعزله عن الجماعة، بل يدخله في صميم قضاياها الجوهرية، أفراحا وأتراحا، واجبات وحقوقا، مرتبطا برهاناتها المشتركة، معبرا أمينا عن لحمتها الوطنية، صوتاً صادقاً لوحدتها المصيرية عبر العصور المتتابعة والحقب المتعاقبة.
والأدب الموريتاني الفصيح – والشعر خاصة – ما فتئ يواكب القضايا الوطنية منذ نشأته في القرن الثاني عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي على الأرجح، في مجالس المديح النبوي، وحضرات العلماء، ومحاظرهم مصورا أنماط الحياة الاجتماعية المختلفة، واصفا الحروب والنزاعات، منتقدا الظواهر السلبية، اجتماعية كانت أم سياسية، أم اقتصادية في احترام عميق لتعاليم الدين الراسخة، وقيمه السديدة العادلة.
ولعل من أهم الأدوار التي قام بها الشعر الموريتاني القديم إعلان المقاومة والجهاد ضد الاستعمار الفرنسي سواء خلال مراحله التمهيدية، أو بعد دخوله المباشر للحوزة الترابية الوطنية والعمل على احتلال البلاد، ونهب مقدراتها ومحاولة طمس تاريخها المجيد وهويتها العتيدة.
وقد نشأ شعر المقاومة، والدعوة إلى جهاد المستعمر مبكرا، خاصة منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر (منتصف القرن التاسع عشر الميلادي) عندما بدأت أطماع الفرنسيين الاستعمارية تتطلع إلى عبور الضفة اليمنى من نهر السنغال (المعروف قديما بنهر صنهاجة).
واتضحت هذه المخاطر أكثر عندما شن الوالي الفرنسي على السنغال فيدرب Faidherbe هجوما على إمارة اترارزة في عهد الأمير محمد لحبيب بن اعمر بن المختار(ت1277هـ، 1860م) ردا على رفض الأخير محاولات الهيمنة الفرنسية على إمارته خاصة حقوقها في الأراضي الواقعة جنوب نهر السنغال، بعد زواجه من وريثة عرش الوالو الأميرة جمبت أمبودج سنة (1248هـ/1832م ) حيث أنجبت له الأمير اعل بن محمد لحبيب (ت 1304هـ/ 1886م).
وقد أخذ الوالي الفرنسي يتحرش بالأمير محمد لحبيب، حتى اندلعت الحرب بين الطرفين، الوطني التروزي والاستعماري الفرنسي سنة 1854م في وقت كانت أراضي البلاد مقسمة إلى إمارات ورئاسات وإقطاعيات، يغلب عليها التنافس والصراع، مع إحساس مشترك بالخطر الخارجي الضاغط، وغياب استيراتيجية شاملة وموحدة للتصدي له وردعه، بل وهزيمته وطرده إلى ما وراء الحدود المعترف بها في ذلك الإبان .
وبرغم بسالة محاربي إمارة اترارزة، وشجاعتهم وصبرهم في المعارك إلا أن غياب الدعم المعتبر من الإمارات الموريتانية المجاورة، وعدم قدوم دعم من الشمال المغربي، أدى في النهاية إلى أن تقبل الإمارة اتفاقية مجحفة لإنهاء الحرب، بعد خمس سنوات صعبة وقاسية (1854-1858م)، تخلت بموجبها عن حقوقها في الأراضي الواقعة جنوب النهر بحيث أصبح النهر حدا فاصلا بين البلدين، بالإضافة إلى تنازلات تتعلق بتجارة الصمغ، وبعض الامتيازات الضريبة.
وخلال هذه الحرب صدحت حناجر الشعراء- كما سنرى- بالقصائد الممجدة للجهاد ضد الاستعمار، باعثة النشاط وروح الحماس والاستبسال في نفوس الشباب المجاهدين الشجعان.
بعد انتهاء حرب فيدرب مع الأمير محمد لحبيب أخذت الإدارة الاستعمارية في السنغال تشعل الصراعات بين الإمارات، والرئاسات الاجتماعية، كما قامت بإذكاء النعرات الفئوية المختلفة، بهدف زرع الشقاق، وإضعاف شوكة الموريتانيين، ومنعهم من التوحد في وجه الغزو الفرنسي الوشيك، وصاحب ذلك تنظيم الادارة الفرنسية في سينلوي رحلات استكشافية إلى داخل البلاد للتعرف عليها، سبيلا إلى السيطرة عليها.
وأخيرا بدأت أولى خطوات تنفيذ مخطط احتلال البلاد، بدخول كيهيدي وسيلبابي في وقت مبكر نسبيا أي سنة 1882م.
وبعد حوالى عشرين سنة من ذلك التاريخ شرع منظر الحملة الاستعمارية الفرنسية لموريتانيا وقائدها كزافيي كابولاني في غزو موريتانيا رافعا شعار: «إحلال السلم الأهلي» ولم يكن ذلك الشعار صحيحا ولا صادقا، وإنما كانت خطة ماكرة لإدخال البلاد في نطاق الهيمنة الفرنسية وتنفيذ المشروع الاستعماري المتفق عليه بينه ووزارة المستعمرات الفرنسية لربط مستعمراتها في غرب القارة وشمالها، وهكذا استطاع التغلغل في موريتانيا عبر الترارزة والبراكنة، حتى وصل تكانت، وهناك لقي مصرعه في تجكجة سنة 1905م على يد مجموعة من المجاهدين الأبطال بقيادة البطل سيدي ولد مولاي الزين، وكان ذلك انتصارا عظيما للمقاومة الوطنية الموريتانية.
وقد بدأت مقاومة الشعب الموريتاني للمغتصب الأجنبي سنة 1902م من خلال معارك التاكلالت وسهوت الماء وغيرهما وكبدوا القوات الغازية خسائر فادحة، وتتابعت المعارك البطولية للمقاومة التي زادت على خمس وأربعين معركة.
السمات المضمونية لأدب المقاومة الموريتانية
ويمكن القول إن أدب المقاومة الموريتانية ضد المستعمر امتاز بالسمات المضمونية التالية:
الدعوة إلى التعبئة
العسكرية ضد الاستعمار
لقد كان الشعراء الموريتانيون سباقين إلى التحذير من خطر الاحتلال الفرنسي للبلاد، وهو أمر ليس بالغريب، إذ أن الشاعر - والأديب عموما - ربما كان أرهف إحساسا من غيره، وبالتالي فهو أعمق رؤية للحاضر وأقوى استشرافا للمستقبل، ونجد ذلك عند الشاعر الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا، الذي دعا إلى التصدي للمستعمر ومجابهته، في وقت كان لا يزال فيه احتلال هذا البلد فكرة تراود مهندسي السياسة الاستعمارية، فالشاعر يحذر من الخطر الوشيك، ويدعو إلى إعداد العدة والاستعداد اتباعا لقول الله تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}، [الأنفال الآية 60]، والقوة ورباط الخيل يختلفان من حيث الوسائل والخطط بحسب أحوال الزمان، وظروف المكان.
وفي هذا السياق الصعب جاء الاجتماع العام الذي عقد عام (1272هـ/1856م) في تندوجه (بئر شمال أبي تلميت) بدعوة من الشيخ سيديا الكبير (ت1284هـ/1868م) الذي استجاب لدعوته أمراء الترارزة والبراكنة وآدرار وتكانت وكثير من علماء البلاد، فكان هذا الاجتماع التاريخي هو الشرارة التي مهدت للجهاد والمقاومة بعد الحرب التي قامت بين الأمير محمد الحبيب والوالي الفرنسي في السنغال الجنرال فيدرب الذي كان يسعى إلى بسط نفوذه على الضفة اليسرى لنهر السنغال، والتخفيف من شروط التبادل التجاري بين الشركات الفرنسية والموريتانيين، كما أشرنا في صدر هذا المقال.
لقد كان الشيخ سيديا الكبير يرى أن القضاء على الخطر الخارجي ضمان لحماية حوزة البلاد وبيضتها وقيل إنه لم يكتف بطلب العتاد، وإنما حاول صنع البارود في موضع حمل اسم «كثيب البارود»، فكانت تلك الجهود ممهدة للدعوة إلى الجهاد العسكري الناجح.
وبعد وفاته رحمه الله سنة (1284ه/1868م) سار على نهجه ابنه الشيخ سيدي محمد (ت1285هـ/1869) الذي حرض الناس على الجهاد ضد المستعمر في رائيته الشهيرة التي يقول فيها: (بحر: الوافر )
ولو في المسلمين اليوم حر
يفك الأسر أو يحمي الذمارا
لفكوا دينهم وحموه لما
أراد الكافرون به الصغارا
حماة الدين إن الدين صارا
أسيرا للصوص وللنصارى
فإن بادرتموه تداركوه
وإلا يسبق السيف البدارا
ولا يكتفي الشاعر الكبيرالشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي بهذه الصرخة المدوية وإنما يذكر بالثارات التاريخية بين الإسلام والعدو المستعمر، وأطماعهم المتراكمة في التدخل في شؤون البلاد والعباد: (بحر: الوافر )
وروم عاينوا في الدين ضعفا
فراموا كل ما راموا اختبارا
فإن أنتم سعيتم وابتدرتم
برغم منهم ازدجروا ازدجارا
وإن أنتم تكاسلتم وخمتم
برغم منكم ابتدروا ابتدارا
فألفوكم كما يبغون فوضى
حيارى لا انتداب ولا ائتمارا
أما ابن الطلبة (1272هـ / 1856م) فيقول محرضا ومستثيرا همم بني بلده: (بحر: الطويل)
ليبك لدين الله من كان باكيا
فقد عريت أفراسه والرواحل
ولا تعولوه بالدموع فإنه
بذلك يستشفي النساء الثواكل
ولكن بأطراف الرماح فإنها
شفاء الصدور والمذاكي القوافل
وكل فتى صعب الكريهة ماجد
مجد محق ليس يثنيه باطل
أما محمد العاقب بن مايابى
(ت 1327هـ/1909م) فقد كان شعره ملحمة من الملاحم الموريتانية كما في قوله داعيا إلى الجهاد بعد احتلال البلاد سنة 1902، ومفتيا بوجوب الجهاد للدفاع عن الوطن يقول: (بحر: الرجز)
مِنِّي إِلَى مَنْ فِي حِمَى «الْمُكَبَّلِ»
مِنْ «قُرْقُلٍ» لِمَا وَرَاءَ «الْعُقُلِ»
أُعِيذُكُمْ بِاللهِ مِنْ فَضِيحَةِ الدْ
ـدُنْيَا وَمـــِنْ رَأْيِكُمُ الْمُفَيَّلِ
لَا تَشْتَرُوا دَنِيَّةً بِدِينِكُمْ
لَمْ يَرْضَهَا غَيْرُ الدَّنِي الْأَرْذَلِ
تَرْجُونَ أَمْنَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ مَا
نَفـــَاهُ نَصُّ الْمُحْكَمِ الْمُنَزَّلِ
قَدْ أَخَذَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَهْدَهُ
أَنْ يُومِنُوا بِالْعَرَبِيِّ الْمُرْسَلِ
فَنَقَضُــــوا مِيثَاقَـــهُ وَأَنْتُــمُ
تَرْجُونَ مِنْهُمُ وَفَا السَّمَوْأَلِ
عَلَى الْقَوِيِّ كُتِبَ الْجِهَادُ لَـ
ـكِنْ هِجْرَةٌ عَلَى الضَّعِيفِ الْأَعْزَلِ
وأما الأديب ماء العينين بن العتيق (ت 1376هـ/1957م) فكان لا يرى عذرا لأي موريتاني قادر على جهاد الاحتلال ولم يبادر لأداء الواجب يقول: (بحر الطويل):
وَذُو الدِّينِ تَنْهَاهُ الْمُرُوءَةُ وَالتُّقَى
وَيَنْهَى كَرِيمَ الْأَصْلِ عَنْهُمْ نِجَارُهُ
وَطَبْعُ أَبِي ِّالنَّفْسِ يَأْنَفُ مِنْهُمُ
وَيَمْنَعُ مِنْهُمْ ذَا الْفَخَارِ افْتِخَارُهُ
وَلَا تَأْلُ جُهْدًا فِي الْجِهَادِ وَمَا انْجَلَتْ
مَعَاذِرُهُ فَلْيَنْأَ عَنْهُمْ مَزَارُهُ
فَمَا الْعُذْرُ فِي نَبْذِ الْجِهَادِ لِقَادِرٍ
فَلَوْ خَذَلَتْهُ النَّاسُ فَاللهُ جَارُهُ
ونجد أيضا الحاج محمود با المتوفى سنة (1418هـ 1998م) يواجه المستعمر في حرب لا هوادة فيها في مواجهة متواصلة معه: (البحر: البسيط)
يا عام «شعس» فخذ ذا الشعر مغتبطا
من «الفلاح» وأبناء لها غرر
قمنا مع المجد والإيثار نستبق
للنصر والنشر والمولى لنا وزر
لأمة المصطفى المختار من مضر
علم الشريعة في الآفاق ينتشر
قمنا خميسا وأبطال لنا «تتلوا»
من فوق سائرة والجو معتكر
تسابق الريح تطوي الأرض مشرقة
من حفظ خالقها تعلو وتنحدر
تجتاز فيح فلاة البيد ناشزة
عن كل وغد إلى الأدبار ينحدر
ناء عن الخير دراك المنى أملا
إن الأماني لا تبقي ولا تذر
وصف معارك
المقاومة ضد المستعمر
وثقت الدواوين والموسوعات الأدبية الموريتانية شعرا فصيحا وشعبيا يتركز موضوعه على وصف المعارك التي خاضها المجاهدون الموريتانيون ضد الاحتلال الفرنسي وما ألحقوه به من خسائر مادية ومعنوية، كما وثقت هذه النصوص «مدح المجاهدين ورثاء الشهداء» في المعارك المتلاحقة التي خاضوها رغم تباين كفاءة السلاح بينهم وبين عدوهم، إلا أن سلاح الإيمان القوي بالله ورسوله، والاقتناع الراسخ بوجوب الدفاع عن الوطن كان عندهم أقوى من كل سلاح حيث خاضوا هذه المعارك خوض المؤمنين الموقنين بالفوز بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة دفاعا عن الوطن في ساحة الشرف والتضحية النبيلة.
الهجرة عن
البلاد بعد احتلالها
أفتى عدد من العلماء بوجوب الهجرة عن دار الاحتلال إلى دار الاسلام.
وهكذا هاجر ثلاثة من العلماء الكبار هم: محمد العاقب، ومحمد الخضر، ومحمد حبيب الله بنوا سيدي عبد الله بن ماياب، كما هاجر العلامة محمد الأمين بن أحمد زيدان، وهاجر الشريف الشيخ المجاهد محمد الأمين بن زين القلقمي في أكثر من مائة أسرة من أهل بلاد شنقيط أغلبهم من الحوض عن طريق الصحراء الكبرى، حتى و صلوا إلى ليبيا، ومنها إلى تركيا حيث استقر الشيخ وتلامذته هناك محاطين بكل صنوف التقدير والتكريم، كما هاجر غيرهم من العلماء والشعراء ولا يتسع حيز المقال لذكر أسمائهم.
مقاطعة المدرسة الفرنسية
حاصر الموريتانيون في أغلبهم المدرسة الفرنسية وطالبوا بإغلاقها، غير أن السلطات الفرنسية أصبحت تفرض الدراسة فيها على البالغين وخاصة من أبناء الأعيان.
وقد وصل الأمر إلى حرمان هؤلاء الأعيان من كثير من الامتيازات التي تقدمها السلطات الاستعمارية لهم ما لم يقوموا بواجباتهم المتمثلة في جلب الطلبة إلى المدرسة الاستعمارية.
وهاجم كثير من العلماء هذه المدرسة المغرضة، وتوسط بعضهم عند ذوي النفوذ لإغلاق المدارس في أقاليمهم ومناطقهم.
ولتسهيل هذا الهدف الخبيث الرامي إلى عزل البلاد عن ماضيها العلمي والحضاري المجيد، وتنفيذا لهذا المشروع الخطير قامت السلطات الفرنسية بمحاصرة المحظرة ومحاولة تفريغها من طلابها، وطالب الموظفون الإداريون الفرنسيون السلطات الاستعمارية في سينلوي إغلاق المحاظر، حتى ينجح مشروع السيطرة على موريتانيا عسكريا وثقافيا، ورأوا أن ذلك غير ممكن مع وجود هذه المؤسسة الثقافية العلمية العريقة متعددة المهام، والغايات.
الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية للمستعمر
دعا الشعراء الموريتانيون إلى مقاطعة المحتل اقتصاديا ومنعه من الوصول الى الصمغ العربي الذي كانت الشركات الأوربية تحتاجه في صناعات حيوية كالملابس، والمنسوجات، وغيرها.
كما دعوا منذ الثلث الاخير من القرن الثالث عشر الهجري الموافق لمنتصف القرن التاسع عشر الميلادي إلى الوقوف مع أمير الترارزة محمد لحبيب بن اعمر بن المختار خلال ما عرف ب «حرب الصمغ العربي» التي أشرنا إليها سابقا، يقول الشاعر العلامة اجدود بن اكتوشني العلوي (ت 1289هـ - 1874): (الخفيف)
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ شُدُّوا عَلَيْهِمْ
وَانْزِلُوا «الزِّيرَ» وَانْزِلُوا «گَنَّارَا»
سَارِعُوا لِلْجِهَادِ بَعْدَ التَّوَانِي
وَاجْعَلُوا خَشْيَةَ الْإِلَهِ شِعَارَا
فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَكُونُوا
إِخْوَةٌ فِي التُّقَى وَفُكُّوا الأَسَارَى
وَاسْتَعِينُوا بِاللهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ
وَتَوَاصَوْا بِالْجَارِ وَاحْمُوا الذِّمَارَا
لاَ تُعِينُوا بِالْعِلْكِ حِزْبِ الْأَعَادِي
وَبِرَجْلٍ يُهَدِّمُ الْأَمْصَارَا
نظرة على أساليب شعر المقاومة الفصيح
تفاوتت نصوص المدونة بين الأساليب الناضحة بالحماس، والاندفاع في رسالة مقاومة المستعمر، وهي قصائد تمتاز بسلاسة الألفاظ، وقوة وقع جرسها الموسيقي مما يشي بتقليدها لأسلوب المعارك والمواجهات العسكرية، كما يلجأ الشعراء أحيانا لاستعمال غريب اللغة لتصوير تلك المعارك المفترضة، كما فعل الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سيديا، حيث يقول: (بحر: الوافر)
وَأَنْ تَسْتَنْفِرُوا جَمْعًا لُهَامَا
تَغُصُّ بِهِ السَّبَاسِبُ وَالصَّحَارَى
تَمُرُّ عَلَى الأَمَاعِزِ وَالثَّنَايَا
قَنَابِلُهُ فَتَتْرُكُهَا غُبَارَا
تَنِي رُبْدُ النَّعَامِ بِحَافَتَيْهِ
وَتَعْيَا دُونَ مُعْظَمِهِ الْحُبَارَى
يَلُوحُ زُهَاؤُهُ لَكَ مِنْ بَعِيدٍ
كَمَا رَفَعَ الْعَسَاقيِلُ الْحِرَارَا
تَخَالُ سِلاَحَهُ شُهْبًا تَهَاوَى
وَتَحْسِبُ لَيْلَهَا النَّقْعَ الْمُثَارَا
لكنه سرعان ما يرجع للسهولة والسلاسة وعذوبة الشعر في مقطع آخر من القصيدة:
فَيَا لَلْمُسْلِمِينَ لَهَا أُمُورًا
وَلَوْ لِلنَّارِ بَعْدَ الْمَوْتِ صَارَا
تَهَاوَنْتُمْ بِمَوْقِعِهَا وَمَا إِنْ
لَهَا الأَكْبَادُ تَنْفَطِرُ انْفِطَارَا
لُصُوصٌ لاَ تَخَافُ الْبَأْسَ مِنْكُمْ
تَهَاوَنْتُمْ بِهَا إِلاَّ اغْتِرَارَا
وَلاَ يَنْجُو مُقِيمٌ مِنْ أَذَاهُمْ
وَلاَ الْعُقْبَى فَتَرْضَى أَنْ تُدَارَى
وَلاَ شِيبٌ عُكُوفٌ فِي الْمُصَلَّى
وَلاَ ابْنُ تَنَائِفَ اتَّخَذَ السِّفَارَا
ويعكس هذا فهم الشاعر لمراحل تجربته الشعرية وما يناسب كل مرحلة منها، ففي مرحلة الوصف يلجأ إلى اللغة المعجمية، وفي موضع الدعوة إلى المقاومة والتحريض والحض عليها يختار لغة عاطفية تتقد إخلاصا وصدقا وسلاسة في أكثر الأحوال.
ونجد ذلك التفاوت عند شعراء من أمثال: باب ولد أحمد بيبه، واجدود ولد اكتوشني.
وقد تغلب اللغة القاموسية على شاعر مثل امحمد ولد الطلبه، في حين تميل إلى السهولة مع شعراء آخرين مثل امحمد ولد أحمد يوره، ومحمد سالم ولد أبي المعالي ومحمود با وغيرهم.
يقول محمد بن أحمد يوره (ت 1342هـ/1920م) يمجد الأمير سيد أحمد بن عيد وبطولاته بعد أن أسر في معركة غير متكافئة مع قوات الاحتلال قاتل فيها بشجاعة مشهودة: (البسيط)
إِنْ يَحْبِسُوكَ فَحَبْسُ الْخَيْلِ مَكْرُمَةٌ
وَلَيْسَ يَسْرَحُ إِلاَّ الإِبْلُ وَالْحُمُرُ
أَوْ يَكْسِفُوا ضَوْءَكَ الْبَادِي فَلاَ عَجَبٌ
فَلَيْسَ يُكْسَفُ إِلاَّ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
أَوْ يَنْكِبُوكَ عَنِ الْعَلْيَا فَلاَ عَجَبٌ
لاَ يَنْكِبُ الدَّهْرُ إِلاَّ مَنْ لَهُ قَدَرُ
أَوْ يَأْخُذُوكَ بِلاَ عُذْرٍ فَلاَ عَجَبٌ
فَالثَّوْرُ يُضْرَبُ لَمَّا عَافَتِ الْبَقَرُ
وبالجملة فإن أساليب الشعراء الموريتانيين في شعرهم المقاوم جاءت متسقة مع ثقافتهم وتقاليدهم الفنية رغم جدة الموضوع وظرفيته بالنسبة لهم، كما حاولوا التجديد في الصورة الشعرية ووفقوا في ذلك إلى حد كبير.
خاتمة
لقد سطرت قرائح الشعراء الموريتانيين قصائد تفيض حماسا، وتشجيعا على مقاومة المستعمر وجهاده، ودحره.
ولقد تصدت له بالفعل مدافع الأبطال الهادرة، وحناجر الشعراء الصادعة، وفتاوى العلماء القاطعة، فكبدته خسائر من افدح ما تكبده في مستعمراته في ذلك الحين، حيث خسر عددا معتبرا من قادته الكبار، وضباطه المتمرسين، ورماته المختارين، وأعوانه الطامعين. واستمر الرفض الثقافي واشتد أواره بعد انحسار المقاومة المسلحة إثر استفادة قوات الاحتلال من وسائل غير تقليدية في ذلك الإبان، كالطائرات، والمدافع الثقيلة، والسيارات العسكرية المجهزة وغيرها.
وخلال سنوات قلائل انطلق النضال السياسي محققا نجاحات كبيرة انتهت باستقلال البلاد في 28 نوفمبر سنة 1960، وخروج المستعمر نهائيا من البلاد، ثم مراجعة اتفاقياته العسكرية سنة 1973، فاكتملت بذلك مراحل استقلال البلاد، وانتزعت كامل سيادتها، وعزتها، وكرامتها التي توارث صيانتها والتضحية من أجلها الأبناء والآباء والأجداد عبر الدهور والأزمان.
قائمة المصادر والمراجع
(مرتبة ترتيبا ألفبائيا)
- أحمد بن الامين الشنقيطي: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، دار الخانجي القاهرة 1989،
- أحمد بن الشمس: النفحة الأحمدية، ط. دار يوسف بن تاشفين، كيفا موريتانيا، العين الإمارات) 2007.
- أحمد ولد حبيب الله: المقاومة الثقافية في موريتانيا، الرابطة الوطنية لتخليد بطولات المقاومة 2015،
- التقي بن الشيخ: المقاومة الثقافية في موريتانيا، قراءة في الأنماط، مجلة الأديب، عدد ممتاز 13، 14، 15 سنة 2010،
- الخليل النحوي: بلاد شنقيط، المنارة والرباط، الألكسو، تونس 1987،
- الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سيديا: الديوان، تحقيق عبد الله ولد سيديا - دار الرضوان 2018،
- الشيخ عبد الله بن صلاح الملقب كلاه: الديوان، تحقيق نناه بن أحمد حامد، الدار العالمية – القاهرة - 2022
- الشيخ ولد سيد عبد الله: نقد الشعر عند الشناقطة، اتحاد الكتاب والأدباء الموريتانيين، 2013،
- الطالب اخيار بن مامين: الشيخ ماء العينين، علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الفرنسي، الطبعة الثانية، دار امربيه رب، الرباط 2009،
- امحمد بن الطلبة: الديوان، دار الرضوان 1996،
- جان جيليه: التوغل في موريتانيا، ترجمة محمدن حمين، الكويت 2007،
- سعد بوه محمد المصطفى: معارك المقاومة الوطنية، نواكشوط 2018،
- سيدي محمد ولد حديد: مقتل منظر الحملة الاستعمارية الفرنسية في موريتانيا– القصة الكاملة – منشورات اتحاد الادباء والكتاب الموريتانيين – نواكشوط 2010
- عبد الحي بن التاب: الديوان، تحقيق خديجة بنت عبد الحي، ط 1 2018،
- عبد الله أحمد حمدي: مختارات من الشعر الإسلامي الموريتاني، منشورات دار الضياء 2000،
- مجموعة من الباحثين، بتنسيق محمدو بن سيدي، الملقب بدن: الطريقة الشاذلية القظفية: الإرشاد والإمداد والجهاد، ط 1/2022،
- محمد الأمين ولد لكويري: دور الشعراء الموريتانيين في مقاومة المستعمر، مقال منشور في مجلة الأديب، العدد الممتاز 13، 14، 15، اتحاد الكتاب والأدباء الموريتانيين 2010،
- محمد الحسن محمد المصطفى: الشعر العربي الحديث في موريتانيا، الشارقة 2005،
- محمد المختار بن اباه: الشعر والشعراء في موريتانيا، تونس 1987،
- محمد المختار ولد اباه ومحمد الحسن محمد المصطفى وأحمد ولد امبيريك: منتخبات من الشعر الموريتاني المعاصر – جامعة شنقيط العصرية - انواكشوط، 2012،
- محمد ولد عبد الحي ومحمد الحسن محمد المصطفى: مختارات من الشعر الموريتاني، نشرت ضمن مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين – الجزء 5، مؤسسة البابطين للإبداع الشعري، الكويت 2001.
- يحي بن محمدن الهاشمي: شعر المقاومة الموريتانية، دار التوزيع والنشر، القاهرة 2013.