ن توسع ظاهرة انعدام الاستقرار السياسي بفعل فشل الخطط التنموية في معظم دول العالم والآثار السلبية للعولمة، يطرح اليوم مشكلة حقيقية بالنسبة للدول وكذا للمجتمعات الإنسانية المعاصرة. فالعالم يواجه حاليا موجات متتالية من انعدام الاستقرار، التي كلما انحسرت منها موجة ظهرت موجة جديدة أكثر عمقا وأخطر تأثيرا على الاستقرار الدولي. وقد صاحب هذه الظاهرة تطور كبير في وسائل النقل والثورة المذهلة في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، التي ألغت الحدود والمسافات بين الشعوب والثقافات، وساهمت بشكل كبير في خلق أجواء من التعاطف والتأثر بين الشعوب.
وترتبط درجة الاستقرار السياسي والأمن في العديد من الدول بدرجة النجاحات التنموية التي تحققها الدولة، وكذلك مستوى العدالة الاجتماعية التي تنتهجها، فالعديد من الأزمات التي يعرفها عالمنا اليوم هي في الأساس ردة فعل على التهميش وانعدام المساواة وانتهاك حقوق الانسان.
وتكاد تجمع معظم الدراسات الحديثة على أن هناك علاقة تلازم بين تحقيق التنمية ودرجة الاستقرار السياسي، ذلك أن الاختلالات الاقتصادية وفشل عمليات التحديث السياسي تهيئ في الغالب الظروف الملائمة لنشوب الصراعات والأزمات. في سنة 2009، نشر المعهد الألماني لدراسات الشرق الأوسط دراسة على شكل كتاب تحت عنوان "مقاربات اجتماعية وإقليمية من أجل التنمية في شمال أفريقيا والشرق الأدنى: أي وعود بالاستقرار للدول في هاتين المنطقتين؟". وقد حاولت الدراسة تقديم إجابات منهجية على سؤال جوهري هو: إلى أي مدى يمكن للتدابير والإجراءات التي يتم اتخاذها في مختلف البلدان المعنية أن تسهم جديا في توطيد وتأمين السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي في تلك البلدان؟.
وكما أن عوامل التهميش والهشاشة الاجتماعية والاقتصادية تشجع ظهور النزاعات وانعدام الأمن، فإن تضافرها مع النشاطات الإرهابية والاقتصاد الإجرامي، قد يؤدي لإضعاف بل وإفشال جهود التنمية المستدامة في مناطق مختلفة من العالم.
إن البحث عن الأمن والاستقرار في المجتمعات المعاصرة يبرز مدى حيوية تلك الصلة الوثيقة بين الأمن البشرى والحكامة الرشيدة والتنمية المستدامة. لكننا ننسى أحيانا، تحت تأثير التصوير الإعلامي المأساوي لمخرجات الراديكالية والتطرف، بأن أساس الظاهرة نفسها هو الوضعية الذهنية للإنسان المعني، قبل أن تتحول إلى أي شكل آخر مهما كانت طرق تنفيذها في الواقع المعيش في مجتمعاتنا اليوم.
وهكذا، في مواجهة عولمة الظواهر العصرية، لم يعد مفهوم الأمن جامدا، ولم يعد مقتصرا على حماية الحوزة الترابية أو السلطة أو رموز الدولة فقط، بل أصبح متسعا ليشمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لكافة شرائح المواطنين رجالا، نساء، أطفالا، وشبابا، وكل الفئات الفقيرة من المجتمع، بحيث يضع قضايا هذه المكونات الاجتماعية في قلب إشكالية الأمن الشامل والبحث عن السلام.
ولعل هذا هو ما يجعلنا خاصة في إفريقيا بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير في السلم والأمن في بلداننا من أجل التكفل بطموحات شعوبنا نحو تنمية مستدامة، منسجمة ومتوازنة، تستجيب لحاجياتنا الخاصة على الصعيد البشرى والمادي والاجتماعي، والاقتصادي والسياسي والثقافي.
ففي ظل تدني مستوى المعيشة، واستمرار الركود الاقتصادي لا يمكن القول إلا أن الجهود التي بذلت لرفع معدلات النمو الاقتصادي وانجاح تجارب التنمية وتحسين مستوى المعيشة قد باءت بالفشل أو لم تحقق النتائج المرجوة منها، مع استثناءات قليلة.
لكن ذلك يرجع إلى أسباب موضوعية ومعوقات تعترض المشاريع التنموية، حيث هناك الاختلال الصارخ للميزان الاقتصادي بين الدول الفقيرة والدول الغنية، فإذا كانت هذه الأخيرة قد حققت طفرة في التصنيع الاقتصادي، فإنه في المقابل ما زالت معظم الدول الفقيرة تعتمد تصدير المواد الأولية، الشيء الذي يجعلها دائما عرضة للتقلبات الاقتصادية العالمية ولعدم تكافؤ معدلات التبادل التجاري، كما يظهر ذلك من خلل الفشل الذريع في تحقيق أهداف التنمية للألفية سنة 2015، وعجز البلدان النامية عن تعبئة الموارد الضرورية لتمويل المشاريع التنموية.
كما أنه لا تخفى العوائق الاجتماعية المتمثلة في تفشي الأمية وانتشار الفساد في معظم البلدان الفقيرة، حيث يرجع إليها السبب المباشر في هدر الكثير من عوائد التنمية. وهناك العوامل السياسية، حيث أن معظم الدول في منظومة العالم الثالث ما زالت ترزح تحت حكم أنظمة لا تؤمن بثقافة حقوق الإنسان، وتستمر في عملية القمع والتنكر لحقوق الشعوب في التعبير عن تطلعاتها، والنتيجة من ذلك تعميق الإحساس بالظلم والتهميش، مما ينتج عنه ضعف الانتماء للدولة.
ولست هنا في معرض تبرئة النظام العالمي الجديد من مسؤولية ما تعاني منه الدول الفقيرة وخصوصا الافريقية من فشل الخطط التنموية بها، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار حصة القارة الإفريقية من التجارة العالمية، ونسبة تدفق الاستثمار الخارجي إليها والذي لا يتجاوز – من دون الاستثمارات الصينية- 6.4 مليار دولار فقط من إجمالي تدفق الاستثمار العالمي البالغ 400 مليار دولار، وهو ما يمثل نسبة 1.5%، بينما بلغت نسبة رؤوس الأموال المهربة من إفريقيا 205% من رؤوس الأموال العاملة مع نهاية القرن الماضي، فكل هذا يجعل النظام العالمي مسؤولا بشكل مباشر عن ما تعانيه القارة الافريقية من صراعات وأزمات.
تحديات التنمية في منطقة الساحل
تقع منطقة الساحل على جانب دول المغرب العربي وتمتدّ من المحيط الأطلسي وصولاً إلى القرن الأفريقي (المحيط الهندي) وتمتدّ على مساحة تناهز عشرة ملايين متر مربّع. وهي منطقة غنية بالموارد الطبيعية التي عملت القوى الخارجية على استغلالها والاستحواذ عليها.
لكن تسمية "الساحل الأفريقي" كمصطلح جيوسياسي حديث تشير في المجال التداولي الراهن إلى نطاق أضيقَ من التعريفات الجغرافية آنفة الذكر، إذ يقتصر على منطقة تشمل خمس دول في غرب القارة الأفريقية، هي تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا. وكلها تقع في الحزام الصحراوي، وتعد بلدانا حبيسة لا تتوافر على إطلالات بحرية، باستثناء موريتانيا المطلة على المحيط الأطلسي. كما ورثت جميعاً حدودها ونظمها السياسية والاقتصادية والإدارية من المستعمر الفرنسي، علاوة على كونها تتشابه في أوضاعها التنموية وبنياتها الاجتماعية، إلى جانب التصحر الذي يغلب على أراضيها ويشكل تحدياً مشتركا لها جميعاً. كما عانى معظمها من قلاقل داخلية وانقلابات عسكرية متتالية. ولا حاجة للقول إن مثل هذه الأوضاع والظروف تمثل شروطاً مواتيةً لظهور الجماعات الإرهابية وانتشارها.
ولهذه المنطقة الشاسعة حدودٌ مسامية تعبرها القوافل التجارية المحملة بالسلع والبضائع، كما شكلت ممرا سالكا لعبور تجّار المخدرات والأسلحة لكنّها أيضاً منطقة تفاعل بين شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، تجري فيها تبادلات بشرية ومالية ودينية متعدّدة الأوجه. ينضاف إلى ذلك أنها خلال العقدَين المنصرمَين، اعتُبرت منطقة الساحل تهديدا أمنيا كبيرا للعالم، وذلك بشكل أساسي بسبب عجز أغلبية دول الساحل على السيطرة على كافة أراضيها.
وتتّسم المنطقة اليوم بتزايد سكّاني هائل وبالإرهاب والصراعات وعدم الاستقرار والانقلابات وعمليات الإتجار بالبشر والمخدرات. وهي تعاني أيضاً تداعيات التغير المناخي، الذي يسبّب في المناطق الريفية حالات متزايدة من الجفاف والفيضانات وانحسار التربة الذي بات يهدد سبل العيش الزراعية ويساهم في النزوح القسري (الهجرة) وتتفاقم هذه المخاطر بفعل المنحى السكّاني؟؟، مع توقّعات بأن يبلغ عدد سكّان مجموعة دول الساحل الخمس (بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر)، والذي يتخطّى 80 مليون نسمة حاليا، 200 مليون نسمة بحلول أواسط خمسينيّات القرن الحالي.
تشكل منطقة الساحل مركباً أمنياً بالغ التعقيد والتشابك، حيث تحتضن العديد من الجماعات الإرهابية الأسرع تمدداً والأكثر عنفاً في العالم. وتواصل هذه الجماعات مثل داعش والقاعدة وبوكو حرام حملة تنفيذ استراتيجياتها العنيفة في المنطقة، حيث شكلت الوفيات في منطقة الساحل 35٪ من إجمالي الوفيات الناجمة عن الإرهاب في العالم في عام 2021، مقارنة بنحو 1٪ فقط في عام 2007 وذلك طبقاً لمؤشر الإرهاب العالمي. ولعل هذا التمدد والانتشار الإرهابي يعكس في أحد دلالاته عقم الاستجابات الدولية والإقليمية للعنف وفشلها في التصدي لارتفاع معدلات الإرهاب، والتي تفاقمت بفعل بعض العوامل الاجتماعية والاقتصادية مثل ارتفاع معدلات النمو السكاني في المنطقة، والزيادات الكبيرة في انعدام الأمن الغذائي وتزايد أعداد النازحين والمشردين على نطاق واسع.
لقد ازدادت الوفيات والحوادث في كل دول المنطقة باستثناء موريتانيا وتشاد، وسجلت كل دولة في الساحل بخلاف موريتانيا وتشاد ما لا يقل عن 40 حالة وفاة بسبب الإرهاب في عام 2021. وكان إجمالي الوفيات المسجلة في عام 2021 في كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر 732 و574 و588 على التوالي.
وشهدت دول منطقة الساحل خلال العامين الماضيين 22\23 تزايدا مخيفا في أنشطة الجماعات الإرهابية التي نمت وتطورت وانقسمت وأعادت تشكيل نفسها. وأدت الهجمات المتواصلة التي تشنها تلك الجماعات إلى زعزعة الاستقرار في وبوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، وارتفعت حصيلة ضحاياها إلى أكثر من أربعة آلاف قتيل خلال سنة 2023، وتأتي هذه النتائج المفزعة على الرغم من الجهود التي بذلت لتطويق الظاهرة.
الصراعات في دول الساحل
تتسم الصراعات في إفريقيا عموما بصعوبات بالغة في احتوائها وتسويتها سلمياً، وهو ما يسهم في زيادة فرص تجددها عقب توقيع اتفاقات وقف إطلاق النار، أو قبل اكتمال تنفيذ ما قد يتم الوصول إليه من اتفاقات تسوية سلمية، ولعل في تجربة الصراع في كل من جمهوريات: مالي؛ وسط إفريقيا؛ جنوب السودان؛ السودان...إلخ، أمثلة واضحة على ذلك.
وهنا يشير بعض الباحثين إلى ارتفاع نسبة الانتكاس إلى العنف في إفريقيا إلى حوالي 60% من حالات الصراع.
ويمكن تفسير ذلك استناداً إلى عدد من العوامل؛ أهمها ما يأتي:
أ - ضعف قدرة معظم دول القارة على فرض كامل سيطرتها على كامل أقاليمها: حتى إن بعض هذه الدول يسيطر على العاصمة وعدد من المدن الرئيسة فحسب سيطرة تكاد ألا تكون كاملة، وهو ما يشجع الجماعات أو القوى المعارضة التي غالبا ما تكون مسلحة، على شنّ الحروب الأهلية، ويساعد أيضاً على سرعة تصاعد حدة تلك الصراعات وطول أمدها، خصوصاً مع عدم قدرة الدول الإفريقية على حسمها.
ب - الاعتماد على الأسلحة الخفيفة: التي تتسم – إذا ما قورنت بالأسلحة الثقيلة - بقلة تعقيدها ورخص ثمنها، وسهولة حملها ونقلها وإخفائها، حتى بالنسبة لظاهرة من يسمون بـ "الجنود الأطفال"، وهو ما يعرقل جهود نزع السلاح، حيث تظل كل أطراف الصراع محتفظة بكميات كبيرة من الأسلحة تحسّـباً لاستخدامها مرة أخرى في أعمال القتال.
ج - وفرة الموارد المالية اللازمة لشنّ الصراعات: تعتمد معظم الجماعات المسلحة على حصيلة بيع الموارد والثروات الطبيعية الموجودة في الدولة محل الصراع، مثل: النفط، الماس والأحجار الكريمة، أو بالاعتماد على تجارة المخدرات وعمليات التهريب، واختطاف الرهائن والابتزاز والسطو، من أجل توفير الأسلحة وتجنيد العناصر القتالية، كما يتم توفير الدعم في كثير من الأحيان من خلال تدخلات القوى الخارجية.
د - افتقار كثير من الدول الإفريقية إلى مؤسسات فاعلة يمكن الاعتماد عليها في ضمان تنفيذ اتفاقات التسوية السلمية: ومن ثمّ يصبح فقدان الثقة المتبادلة بين أطراف الصراع سمة مميزة للمرحلة التالية لتوقيع تلك الاتفاقات، وهو ما يسهم في تجدد الصراعات مع حدوث أي عائق على طريق تنفيذ اتفاقات التسوية.
هـ - وجود تباينات جمّة في المصالح ما بين أطراف الصراع: خصوصاً في ظل التدخلات الخارجية التي تشهدها الصراعات الداخلية في معظم الدول الإفريقية، ومن ثمّ تتفاوت درجة الالتزام بالتسوية السلمية بين أطراف الصراع، وهو الأمر الذي يسهم في الانتكاس إلى العنف مرة أخرى.
وما دام الحديث عن الصراعات وأسبابها، فإن آثارها سوف تكون كارثية في الأفق المنظور إذا لم يتحرك المجتمع الدولي بشكل فاعل من أجل مواجهة الأسباب الكامنة وراءها.
فبحسب بعض الدراسات، سيتجاوز عدد اللاجئين بحلول سنة 2050 حدود 300 مليون لاجئ، وسيكون ثلثا هذا العدد في إفريقيا وحدها، في حين تتوقع أن تزيد نسبة الصراعات والحروب الأهلية في تلك القارة من هنا حتى عام 2030 بنسبة 55%.
ففي الوقت الذي تتراجع فيه نسبة المواجهات والصراعات بين الدول، بات العالم اليوم يشهد تزايدا مقلقا للصراعات والمواجهات الداخلية، وتستأثر القارة الإفريقية حاليا بأكبر عدد من الصراعات الداخلية، حيث تعيش ما يناهز 25 صراعا، خلفت نحو 5.2 مليون لاجئ وأكثر من 13 مليون مشرد.
ينضاف إلى ذلك أن نسبة 90% من ضحايا تلك الصراعات من المدنيين وغالبيتهم من الأطفال والنساء، مما يمثل تهديدا مستمرا للاستقرار في الدول الإفريقية مع ما يمثله من خطورة على الأمن والاستقرار الدوليين، من دون الأخذ بما تسببه تلك الصراعات من تآكل في جهود سنوات كثيرة من التنمية الاقتصادية والبشرية في العديد من الدول الإفريقية مثل: الجزائر، السودان، جنوب السودان، الصومال، مالي، أتشاد، النيجر، رواندا، وأنجولا.
ولكن الاكتفاء بالأرقام الإحصائية لا يعطي فكرة كافية عن تعقد مشكل اللاجئين في إفريقيا، لذلك لا بد من تبيان أنه على الرغم من انتشار مشكلة اللاجئين إلا أن تأثر الدول بها ليس على نفس القدر من المساواة.
فإذا كانت بعض الدول لها القدرة على استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين، فإن دولا أخرى تتأثر بشكل كبير بوجودهم، لما يشكلونه من أعباء على مواردها المحدودة، ومن خطر على استقرارها وتركيبتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ورغم ذلك، اتسمت معاملة الدول الإفريقية مع اللاجئين بمستوى كبير من المرونة خصوصا في القرن الماضي، لكنها تشهد في الآونة الأخيرة تغيرا سلبيا اتجاه اللاجئين للأسباب التالية:
1 - تزايد أعداد اللاجئين في الفترة الأخيرة، فقد شهدت حركة اللاجئين ونطاقها تزايدا بشكل واضح منذ بداية الثمانينيات، ولم يعد اللاجئون هم ضحايا حروب التحرير، بل ضحايا الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية.
2 - تنكر الدول المتقدمة لحق اللجوء، حيث حدت من حماية اللاجئين، فمنذ بداية الثمانينيات بدأت دول غرب أوروبا وأمريكا الشمالية في تصميم إجراءات للحدّ من اللاجئين، ومن ثمّ فإذا كانت الدول المسؤولة عن إنشاء نظام دولي لحماية اللاجئين تتحدى الأسس الأخلاقية والقانونية لهذا النظام؛ فليس غريباً أن تتبعها دول أخرى، وبخاصة تلك التي تعاني مشكلات اقتصادية، ولذلك فعندما بدأت الدول الإفريقية في إغلاق حدودها أمام اللاجئين كانت تسوّغ ذلك بما سبق أن اتخذته بعض الدول المتقدمة من إجراءات مماثلة.
3 - تأثير العوامل الاقتصادية، فمنذ بداية الثمانينيات، بدأت العديد من الدول الإفريقية تعاني من تراجع معدلات النمو الاقتصادي، كما تراجعت المساعدات التنموية من دول الشمال إلى دول الجنوب، وبدأت توجّه إلى عدد محدود من الدول؛ في ظلّ سياسات المشروطية التي ربطت هذه المساعدات ببرامج التكيف الهيكلي والإصلاحات السياسية.
4 - النظر إلى اللاجئين بوصفهم خطراً مهدّداً للاستقرار الاجتماعي والسياسي لدول الملجأ، وفي بعض الحالات لا يكون لدى دول الملجأ القدرة، أو الاستعداد، للحفاظ على القانون في المناطق المهمّشة، أو البعيدة التي يعيش بها اللاجئون، وهو شكل آخر من ملامح مشكلة اللاجئين في إفريقيا.
5 - إن الدول المانحة قد ساهمت في تدهور قواعد حماية اللاجئين في إفريقيا لعدم استعدادها لتمويل برامج طويلة الأجل لمساعدة اللاجئين، فقد سعت هذه الدول إلى إنهاء برامج مساعدة اللاجئين في أقرب وقت ممكن، ومحاولة إعادة اللاجئين إلى أوطانهم.
اللاجئون في الساحل وضعف الاهتمام العالمي
يثار الجدل حول الدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع الدولي في منع الصراعات والحيلولة دون وقوع أزمات في القارة الإفريقية، فإذا ما تحلى قادة النظام الدولي بالشجاعة وتغليب الأبعاد الإنسانية على المصالح الاقتصادية والتجارية الضيقة، فإن العالم سوف تتراجع فيه لا محالة تلك الصراعات التي كانت تغذيها من قبل القوى الخارجية بغية السيطرة على موارد الدول والتحكم فيها.
فكما نجحت القوى الدولية في فرض التحول من نظام التفرقة العنصرية في جمهورية جنوب إفريقيا، فإنها تملك القدرة على تشجيع الأنظمة السلطوية في إفريقيا على الالتزام بالقواعد الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والحيلولة دون ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والعنف العرقي، والعمل على تحقيق التنمية في تلك البلدان.
كما أن المنظمات الدولية مدعوة هي الأخرى للعب دور مهم في الصراعات والأزمات، فهي باستطاعتها أن تمارس دور الطرف الثالث المحايد الذي لا تستطيع أن تقوم به الدول نفسها، وبالتالي يتعين عليها أن تعي حساسية طبيعة تدخلاتها في الصراعات والأزمات.
لكن هذا الدور المطلوب من المجتمع الدولي القيام به، تبين الممارسات السلوكية سواء على مستوى الدول أو المنظمات الدولية أنها تسير عكسه تماما، بل يمكن القول أن العالم لم يكترث لمعاناة اللاجئين في إفريقيا، ويعترف أكثر من مسؤول في المنظمات الدولية العاملة في مجال اللاجئين بأن هناك قدراً كبيراً من عدم المساواة في المساعدات المقدمة للاجئين في إفريقيا مقارنة بالمساعدات المقدمة للاجئين في غيرها من المناطق، فقد أعرب مدير "برنامج الغذاء العالمي" أنه لا يمكن الهروب من حقيقة وجود معايير مزدوجة في التعامل مع اللاجئين، وأن المعاناة في إفريقيا قد وصلت إلى مستوى لم يكن من الممكن قبوله في أي مكان آخر في العالم، كما صرح أحد مسؤولي "مفوضية الأمم المتحدة" لشؤون اللاجئين بأن المفوضية تمنح اللاجئ الواحد في دول يوغوسلافيا السابقة 120 دولاراً؛ بينما تمنح نظيره في إفريقيا 35 دولاراً، حتى مع الأخذ في الاعتبار اختلاف تكاليف المعيشة يبقى هناك حالة واضحة من عدم المساواة.
وفي الواقع؛ فإن قضية الاهتمام العالمي باللاجئين في إفريقيا لها أبعاد عدة، وتتصل بقضايا سياسية واقتصادية، تمثّل المصادر الأساسية لمشكلة اللاجئين، فمن الناحية السياسية انخفضت الأهمية السياسية للقارة بالنسبة للقوى الغربية منذ بداية التسعينيات، فخلال الحرب الباردة كانت دول مثل: أنجولا، والكونغو الديمقراطية، وغيرهما لها أهمية في ظلّ التنافس بين المعسكرين في ظل الثنائية القطبية وأجواء الحرب الباردة، ولكن بعد انتهاء هذا التنافس، تراجعت الأهمية الاستراتيجية للقارة، وتركت الدول الغربية دول القارة الإفريقية تواجه مشكلاتها وصراعاتها، وهي المصدر الأول لمشكلة اللاجئين بمفردها.
ومن الناحية الاقتصادية انخفضت المساعدات التنموية للدول الإفريقية في الوقت الذي تواجه فيه المنتجات والسلع الإفريقية قيوداً في الوصول إلى أسواق الدول الغربية، وهذه السياسات التي تتبعها الدول الغربية كانت أحد أسباب تدهور الأداء الاقتصادي للدول الإفريقية، لتدخل هذه الدول في حلقة مفرغة من الفقر والصراع واللاجئين.
خلاصة
إنّ التعامل مع مشكلة الصراعات في إفريقيا يحتاج إلى تعاون عدة أطراف، فعلى الدول المانحة والمنظمات الدولية أن تتحمل مسؤوليتها في دعم الجهود التنموية في القارة، والوساطة في المنازعات، ودعم آليات منع وإدارة الصراعات، كما أن عليها أن تتجنب تسييس قضية اللاجئين، وتنظر إليها باعتبارها قضية إنسانية في المقام الأول، ففي الوقت الذي استغلت فيه الدول الغربية أزمة "دارفور" ولاجئيها، للضغط على الحكومة السودانية وحصارها، كان آلاف اللاجئين يفرون من الكونغو الديمقراطية دون أن يلتفت إليهم أحد.
أما الدول الإفريقية؛ فتحتاج إلى نقل التزامها بمبادئ الحكم الرشيد والعدالة من النصوص القانونية إلى التنفيذ العملي، وعلى دول الملجأ منها أن تحترم القواعد القانونية الخاصة بحماية اللاجئين.
د. محمد الأمين إبراهيم السالك