وسائل وأدوات الحرب عند الموريتانيين من خلال آراء المستكشفين

مقدمة ذاكرة عسكرية

منذ فجر التاريخ، عرف المجال الموريتاني الحالي تجارب عسكرية، شكلت محطات هامة من تاريخنا العسكري، الذي لم يجد بعد نصيبه من التدوين والصيانة والحفظ... في هذا الركن قررنا استنطاق الذاكرة العسكرية، ودعوة الباحثين والمؤرخين إلى الكتابة عن هذه التجارب التي لفها غبار الزمن وتناولتها يد النسيان..

وسائل وأدوات الحرب عند الموريتانيين من خلال آراء المستكشفين

الفرنسيين أثناء القرن التاسع عشر

تمهيد

مثلت الأسلحة عبر تاريخ البشرية أداة لا غنى للإنسان عنها، إذ يستخدمها في عمليات الصيد والقنص ضمانا لما يسد به رمقه كما يستخدمها في الدفاع عن النفس ضد الحيوانات المفترسة. إلا أن الوظيفة الأساسية للأسلحة هي الحروب سواء كانت دفاعية لمواجهة الغزاة والدفاع عن المجال أم هجومية لإخضاع خصم أو الاستيلاء على رقعة جديدة. وقد عرفت البلاد الموريتانية أثناء القرن التاسع عشر قفزة في مجال اقتناء وانتشار الأسلحة النارية، خاصة البنادق جراء الحروب والمعارك بين الإمارات والقبائل من ناحية، وبينها والفرنسيين الساعين إلى إخضاع موريتانيا تمهيدا للربط بين مستعمرتيها الشمالية (الجزائر) والجنوبية (السنغال) من ناحية ثانية.

وتسعى هذه المشاركة إلى تسليط بعض الأضواء على الأسلحة والتسلح لدى الموريتانيين أثناء القرن التاسع عشر، وهي فترة مفصلية في تاريخ المنطقة.

وبما أن الحرب وأدواتها لدى سكان البلاد الموريتانية شغلت حيزا مهما في اهتمامات الرحالين والمستكشفين الفرنسيين الذين زاروها أو اهتموا بها، فإننا سنركز على هذه المصادر الفرنسية في تناولنا لأنواع هذه الأسلحة، والمصادر التي استجلبت منها وطرق ووسائل استخداماتها.

الحرب (الوسائل والطرق)

إن ممارسة الحرب واستخدام الأسلحة كانت في العادة من مشمولات اختصاص فئة المجموعات ذات الشوكة.

وتجري الحروب عادة بين المجموعات المكونة للإمارة ذاتها، أو بين بعض أو كل المجموعات في إمارة ما ضد إمارة أخرى غالبا ما تكون مجاورة.

وفضلا عن الحروب والمعارك، عرف المجال الموريتاني غارات خاطفة تقوم بها هذه الجماعة أو تلك ضد جماعة أخرى، أخذا بثأرٍ أو بحثا عن موارد رزق في ما يمكن اعتباره شكلا من أشكال تنظيم مصادر العيش، وإعادة توزيعها في هذا المحيط الصحراوي الضنين.

وقد أثارت الحرب لدى الموريتانيين وأدواتها وأساليبها اهتمام بعض الرحالين والمستكشفين الأوروبيين خاصة الفرنسيين، إذ نجد لديهم إشارات مشتتة إلى هذه الظاهرة.

يتحدث الرحالة الفرنسي كاسبار-تيودور موليين (Mollien, Gaspard-Théodore) الذي زار منطقة نهر السنغال سنة 1816 عن تربية أبناء المحاربين وتكوينهم المبكر على الحرب، حيث يرسلون إلى القتال في سن العاشر ة "ففي هذه السن يعرفون ركوب الخيل واستعمال البنادق".

وينحو الرحالة رنى كايى (René Caillié) الذي وصل منطقة البراكنة في صيف 1824 وتجول داخلها أزيد من تسعة أشهر، منحى سلفه موليين مؤكدا أن طموح هؤلاء المحاربين الأساسي "يتمثل في إتقان الفروسية والقتال".

ويتم إعلان الموريتانيين لقرار الحرب عادة بعد مشاورات بين الأمير والجماعة التي تضطلع بدور مجلس الأعيان.

وتؤدي الخيل والإبل دورا أساسيا في الحروب لدى هؤلاء السكان، ولعل ذلك من أهم أسباب المكانة المتميزة التي يعطونها لهذين الصنفين من الحيوانات بشكل خاص.

فلدى كل بيت أميري، وربما لدى كل مشيخة أو قبيلة من القبائل ذات الشوكة توجد عينات من الخيل يوشك الاهتمام بها أن يصل حد التقديس.

يذكر الرحالة إيجن-آبدون ماج (Eugène-Abdon Mage) الذي زار منطقة تكانت ملتقى سنتيْ 1859-1860 أن لدى معظم الموريتانيين "خيلا مشهورة بسرعتها المنقطعة النظير في المباراة".

وعن المكانة المتميزة للخيل والبندقية عند القوم، يتحدث الرحالة رنى كايى أن المحارب "الذي يمتلك فرسا وبندقية ودراعة يعتبر نفسه أكثر العالمين سعادة".

وتحاك روايات أسطورية عن سرعة خيلهم وقدرتها الفائقة على هزيمة العدو، وحماية فارسها من السقوط أو من ضربة طائشة صادرة من خصم محترف. كما تنسج روايات دون تلك المرتبة عن بعض الجمال ذات الاستخدام العسكري.

وتكاد منزلة الجمل لا تقل أهمية عن مكانة الجواد، فالجمل فضلا عن استخدامه في مجال الحرب يعتبر "سفينة الصحراء"، التي لا تكل والتي قدمت على مر الزمن خدمات كبيرة لسكان الصحراء.

وينقل الرحالة بول صوليى (Paul Soleillet) الذي اجتاز المنطقة أثناء شهري فبراير وإبريل سنة 1880، منطلقا من بلدة نجاكو بمصب نهر السنغال حتى مشارف مدينة أطار، أنموذجا من اعتداد السكان المحليين بالجمل حين يقول: "قال لي محمد مولود، وزير الأمير [عْلي بن محمد الحبيب] وهو [أي الوزير] يمتطي جمله ووراءه زوجته: انظر، هكذا فمع الجمل لا ينقص المرء شيء، إذ باستطاعته الذهاب حيث شاء حاملا ما يحتاج إليه: زوجته وسريره".

 

أسلحة الموريتانيين (المصادر والأنواع)

كان الموريتانيون أثناء القرن التاسع عشر يحصلون على الأسلحة من مصادر مختلفة، لعل من أهمها:

  • المتاجرة مع الأوروبيين (الضرائب العرفية)،
  • التهريب،
  • التجارة مع المغرب،
  • التصنيع المحلي.

وتتشكل أسلحة الموريتانيين من البنادق والسيوف والخناجر والسكاكين والنبال والفؤوس وأحيانا من العصي.

وعن نوعية العتاد الحربي الموريتاني، يشير الرحالة الفرنسي موليين إلى أن أسلحة الموريتانيين "هي أسلحتنا بعينها، غير أن غياب التنظيم يجعلهم دوننا في ميادين الحروب".

ويقول بول بلانشى (Paul Blanchet) الذي زار مناطق الترارزة وإينشيري وآدرار سنة 1900، في هذا المجال: "ليس للموريتانيين من سلاح سوى بنادق أجدادنا ذات الحجارة التي تواصل بلجيكا في طمأنينة تصنيعها لهم بلييج (Liège)، وخناجر تُجلب من المغرب الأقصى.".

ويبدو من خلال تقرير علي صل (Alioune Sall) عن رحلته عبر المناطق الوسطى والشرقية من البلاد بين سنتيْ 1861 و1864 أن العديد من المجموعات القبلية في تلك المناطق -بما فيها بعض القبائل الزاوية- تتوفر على مختلف هذه الأسلحة.

ويبالغ الرحالة بول بلانشى في كثرة سلاح السكان المحليين حين يجزم قائلا بأن كل موريتاني يملك بندقيته الخاصة، فهو "لا يخرج أبدا ولا يتحرك ولا يقوم بأبسط عمل في الحياة، حتى الصلاة [؟!]، دون أن يكون مصحوبا ببندقيته الممتلئة حتى الفوهة بشظايا الرصاص، إذا توفر، أو بكريات الحجارة أو بالحديد المهشم.

وقد يكون مرد هذه المبالغة هو محاولة بول بلانشى تبرير المصير الذي آلت إليه بعثته في آدرار سنة 1900 حيث تعرض للنهب والأسر، ذلك أن غيره من الرحالين والمستكشفين الفرنسيين الذين زاروا البلاد الموريتانية في القرن التاسع عشر أكدوا على أن حمل السلاح واستخدامه يكاد يكون مقصورا على القبائل المحاربة ذات الشوكة .

ونكتفي في هذا المجال باستشهاد للرحالة بول صوليى، وقد زار منطقة آدرار الموريتانية التي يتحدث عنها بلانشى قبل وصول هذا الرحالة إليها بعقدين من الزمن، سالكا طريقا مشابهة لطريق سلفه بلانشى وعابرا منطقتي الترارزَه وإينشيري. يقول صوليى: "لا يتوفر الزوايا على أي سلاح في هذه المناطق [....] سوى سلاح العلم والرحمة والغفران ".

ولا يقتصر الموريتانيون على استخدام الخيل وحدها في مبارياتهم ومبارزاتهم وحروبهم، بل إن للجمل مكانته المتميزة بوصفه وسيلة للحرب. يقول الرحالة موليين: "إن هؤلاء الفرسان [....] المحتمين وراء تلك الحيوانات [الجمال] يحاربون برباطة جأش تماثل ما لدى محاربينا [الفرنسيين] وهم وراء الأسوار والحواجز"، فما هي أهم الطرق والاستراتيجيات التي يتبعها أولئك الفرسان في معاركهم?

 

استراتيجيات الحرب

لم تكن عند الموريتانيين قواعد محددة للقتال، لكن الكرّ والفرّ والهجوم المباغت والكمين كانت من أهم أساليب المعركة عندهم.

ويبرز الرحالة رنى كايى أسلوب القوم في المباغتة حين يقول: "إنهم لا يتحاربون إلا عن طريق المناوشات، ولا يهاجمون إلا بغتة".

وبعد سبعة عقود ونصف على مغادرة رنى كايى لمنطقة البراكنه، يؤكد بول بلانشى على أهمية الهجوم المباغت والكمين، ضمن آليات الحرب الموريتانية. يقول هذا الرحالة نقلا عن أحد أفراد إحدى المجموعات المحاربة: "[...] إننا لا نطلق النار على العدو إلا إذا أصبح على بعد متر واحد منا ونحن مختبئون، وإذا لم تفعل البندقية فعلتها فإن الخنجر كفيل بتصفية الخصم".

ويبدو أن معظم المعارك لم تكن تجري على أرضية مقننة وطبقا لقواعد قتال الجيوش، بل إن الفرسان كانوا مرغمين على "أن يجوبوا مسافات شاسعة بحثا عن غرمائهم أو غنائمهم".

ورغم أن المؤرخ المختار بن حامد يرى أن المحاربين "ليست عندهم للقتال قواعد مرعية، إنما كان كرا وفرا بين الفرسان واغتيالا في المناسبات ولم يكن هنالك تجنيد إجباري أو راتب للمجندين فالقتال تطوع وعصبية"، فإن كل إمارة وربما كل مشيخة كانت في ذلك القرن تمتلك ما يمكن، بشئ من التجاوز، اعتباره قوة عسكرية خاصة بها. وتتشكل هذه القوة عادة من فرسان القبيلة أو المجموعة القبلية الحاكمة وأتباعها. وقد تلجأ إلى مساعدة بعض المجموعات التابعة، ولو كان ذلك كله لا يمكن الأمراء من الاستغناء عن مساعدة القبائل الأخرى صاحبة الشوكة الموجودة في المجال الترابي لهذا الأمير أو ذاك، كما أنه لا يخولهم فرض السيطرة المطلقة على تلك القبائل.

وتتم تعبئة هذا "الجيش" إن جاز التعبير في مناسبات الحرب بطرق مختلفة. ويعتبر الطبل الأداة الإعلامية التي يعلن قرار الحرب عن طريق قرعها عدة مرات.

ويمكن اعتبار الغنائم التي تتقاسم بعد النصر نوعا من رواتب الجند غير النظاميين، الذين يؤلفون أحيانا ما يمكن اعتباره -تجاوزا- قطاعات عسكرية.

 

القطاعات العسكرية

لقد برزت فكرة إنشاء قطاعات عسكرية داخل بعض الإمارات لتسهيل الدفاع عن المجال الأميري. فقد عرفت إمارة الترارزه مثالا لا حصرا توزيعا جيوعسكريا لقدراتها الحربية، إذ يشير المستكشف هانري فينصان (Henri Vincent) الذي زار المنطقة سنة 1860، في هذا الموضوع، إلى أن إحدى القبائل المحاربة في الإمارة كانت تضطلع بدور القوة الاستطلاعية في الهوامش الشمالية لمجال الإمارة، بينما تمارس قبيلة محاربة أخرى العمل نفسه في الأجزاء الشرقية من ذلك المجال.

ويتحدث علي صل من جانبه عن تولي مجموعة محاربة لحراسة نقاط المياه الموجودة على الطريق بين مدينتيْ أروان وولاته، مشيرا إلى أن مجموعات من تلك القبيلة تؤلف مراكز حراسة متقدمة في التخوم الشرقية من المنطقة .

ونجد لدى بعض المستكشفين والرحالين معطيات كمية، عن القوى العسكرية التي كانت تتوفر عليها بعض الإمارات خلال القرن التاسع عشر. وإذا كنا نشك في دقة تلك المعطيات ونتساءل في الوقت نفسه عن مدى مشروعية الركون إليها، فإنها في حد ذاتها -وبغض النظر عن صحة أرقامها- تدل على توفر تلك الكيانات على رصيد عسكري لا يخلو من أهمية.

فالضابط  جان-فرانصوا كايْ (Jean-François Caille) الذي تجول في محطات التبادل على نهر السنغال، يقدر في سنة 1843 العدد الإجمالي للمجموعات المحاربة في إمارة الترارزه بخمسة وعشرين ألف نسمة، من بينهم ستة آلاف مقاتل.

ويبلغ مجمل المجموعات المحاربة في إمارة البراكنه المجاورة -حسب هذا الضابط دائما- ثلاثة وعشرين ألف نسمة من بينهم خمسة آلاف مقاتل.

أما المستكشف علي صل فيقول: "إن جيش بكار ولد اسويد أحمد يتجاوز أحيانا عدة آلاف من الفرسان". ويشير هذا المستكشف عبر تنقلاته في المناطق الشرقية من البلاد إلى تشكيلات عسكرية متعددة.

ويضيف علي صل قائلا: "لقد تصادف وصولي إلى مدينة ولاته مع تعرضها لهجوم من طوارق تنبكتو، غير أن أولاد علوش وأهل بورده تمكنوا من تعبئة أكثر من ألفي رجل مسلحين بالبنادق لصد المهاجمين الذين هزموا شر هزيمة فلم يستطع منهم العودة إلى تنبكتو سوى 70 رجلا، في حين خسر المنتصرون خمسين رجلا فقط".

ورغم أننا لا نعرف المصادر التي استقى منها علي صل معلوماته تلك، ورغم ما تثيره الأعداد الصماء من تساؤل كذلك، فإن ما ذكره يدعم ما ذهبنا إليه وهو وجود نواة لجيش احتياطي عند مختلف الإمارات والمشيخات الموريتانية.

ويقدم بول بلانشي بدوره معلومات كمية تتعلق بالقوى العسكرية لإمارة أولاد يحيى بن عثمان إبان بعثته إلى آدرار سنة 1900 .

وختاما نقول إن الموريتانيين قد امتلكوا على غرار غيرهم من الشعوب أسلحة مختلفة واستخدموها استخدامات متنوعة في حروبهم الداخلية وفي صراعاتهم مع الجيران وفي الدفاع عن وطنهم ضد التوغل الفرنسي في المنطقة الذي بدأ يستفحل منذ القرن التاسع عشر، حيث يعترف الفرنسيون في وثائقهم الأرشيفية أن الغارات التي كان أمراء الترارزة يشنونها على السنغال كانت وراء إفشال تجربة الاستعمار الزراعي التي جربها الفرنسيون في مستعمرة السنغال.

ويكفي الموريتانيين فخرا أنهم استخدموا الجملَ وسيلةَ نقلٍ والسيفَ أداةَ قتلٍ يوم 12 مايو 1905 حينما صرعوا كزافى كوبولاني (Xavier Coppolani) المتحصنَ بقلعة تجكجه بوسط البلاد الموريتانية. فكانت موريتانيا بذلك الدولة الوحيدة في إفريقيا التي تمكنت مقاومتها من قتل رأس حربة التوغل الاستعماري.

 

البروفيسور محمدّو أميّن

جامعة نواكشوط/موريتانيا

اثنين, 13/05/2024 - 10:29

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك