أبعاد الأمن السيبراني

يعمل تطور الفضاء السيبراني على تشكيل مجتمع رقمي، وفقا لخطة التنمية المستدامة 2030 التي وافقت عليها الحكومة الموريتانية 2015، كمثيلاتها من حكومات العالم، والتي جاء فيها "تبشير بانتشار تكنلوجيا المعلومات والاتصال والترابط العالمي بإمكانات كبيرة، بل بتعجيل التقدم البشري وسد الفجوة الرقمية وإنشاء مجتمعات المعرفة".

إن هذا التحول الذي أثر على كل أبعاد الحياة، يتطلب فهم وحماية المعلومات والأنظمة الرقمية من التهديدات السيبرانية المرافقة. ويعتبر أمن الفضاء السيبراني اليوم أحد أهم التحديات التي تواجه العديد من الدول والمؤسسات، مما جعله جزءا لا يتجزأ من الأمن القوي والاستراتيجية العامة للدفاع.

ومن أجل فهم هذا التحدي بشكل أعمق، يجب التفكير في الأبعاد المتعددة للأمن السيبراني، والتي تشمل الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والعسكرية. لكل مجال من هذه المجالات متطلبات أمنية تختلف عن المجالات الأخرى الشيء الذي خلق أبعادا متعددة للأمن السيبراني.

البعد السياسي للأمن السيبراني

هناك العديد من الأمثلة التي تؤكد أهمية البعد السياسي للأمن السيبراني، مثل تسريب الوثائق الحساسة المختلفة التي تسبب مشكلات جسيمة على المستوى الداخلي والخارجي، وتؤثر بصفة صريحة على العلاقات الدولية، مثلا أزمة الخليج بين قطر ودول الخليج الأخرى في 5 يونيو 2017، كانت الشرارة هي الاختراق الذي تعرضت له وكالة الأنباء القطرية في 23 مايو/أيار 2017.

كما لا يمكن إنكار دور شبكات التواصل الاجتماعي في المشهد السياسي، فهي تستخدم في حملات الانتخابات والتظاهرات الافتراضية والحركات الاحتجاجية الإلكترونية، كما لا يمكن إنكار دور هذه الشبكات في قيام ثورات الربيع العربي أواخر 2010. بالإضافة إلى ذلك، تستغل العديد من الحكومات هذه المنصات لترويج سياساتها.

وفي سياق آخر، يجب ألا نغفل عن استخدام الجماعات الإرهابية لتلك المواقع، لتجنيد أعضاء جدد وجمع التمويل لعملياتها والترويج لأفكارها التخريبية. تعد هذه المنصات وسيلة للتواصل بين الأفراد والجماعات الإرهابية.

وبالتالي، يجب أن تعمل الدول على حماية أمنها من التهديدات والمخاطر التي تنطوي عليها شبكة الإنترنت.

البعد الاقتصادي للأمن السيبراني

لقد أصبح الفضاء الإلكتروني جاذبًا لجميع قطاعات المجتمع، وأضحت المعرفة المحرك الأساسي للإنتاج والنمو الاقتصادي، وأدرك الجميع أن التركيز على المعلومات والتكنولوجيا هو عامل مهم لتعزيز الاقتصاد، وقد دفع ذلك الدول في الآونة الأخيرة لزيادة استثماراتها في المعرفة، وغدا تحديث الاقتصاد مرتبطًا بالسيطرة على الاقتصاد الرقمي من قِبَل الجهات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، من خلال استخدام الكمبيوتر وشبكة الإنترنت في تطوير الصناعات وتحريك الاقتصاد، ومعالجة جميع المعاملات الاقتصادية والمالية، فزاد من أهمية وضرورة توفير الأمن في الفضاء السيبراني، لضمان حماية هذه المعلومات التي تعتبر ثروة قومية.

على سبيل المثال، يشير تقرير صادر عن شركة (Emarketer) إلى أن حجم التجارة الإلكترونية بلغ خمسة تريليونات دولار في عام 2014، بزيادة نسبتها 20% مقارنة بعام 2013 الذي بلغت فيه 1.2 تريليون دولار، واستمرت معدلات النمو في تزايد. ونظرًا لارتفاع معدلات الجرائم السيبرانية المنظمة والخطيرة، فإن ذلك يشكل تهديدًا صريحًا لنمو الاقتصاد الرقمي، ما لم تعمل الدول على تعزيز معايير الأمن السيبراني للحد من هذه الجرائم.

إن البعد الاقتصادي للأمن السيبراني يعكس التأثير السلبي الذي يمكن أن يحدثه التهديد السيبراني على النظام الاقتصادي، ويبرز أهمية اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأنظمة والشبكات والبيانات من الهجمات السيبرانية.

البعد الاجتماعي للأمن السيبراني

البعد الاجتماعي للأمن السيبراني يعتبر عنصرًا هامًا في التحقيق والحفاظ على الأمن الرقمي. يتعلق الأمن السيبراني بحماية الأنظمة الإلكترونية والشبكات من التهديدات الإلكترونية والاختراقات، ولكنه يتعدى ذلك ليشمل أيضًا العوامل الاجتماعية والبشرية. يؤثر البعد الاجتماعي في الأمن السيبراني من خلال عدة جوانب، على سبيل المثال، يلعب الوعي والتثقيف السيبراني دورًا حاسمًا في تعزيز الأمن السيبراني وتحصين الأفراد والمجتمع ضد الشبكات الإجرامية الناشطة في الفضاء السيبراني، وتمارس الابتزاز وتجارة المخدرات والاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر والتشجيع على الهجرة غير الشرعية ونشر الأفكار المتطرفة، وحتى تجارة الأعضاء البشرية. كما يساعد تعزيز الوعي بين المستخدمين بالمخاطر السيبرانية المحتملة وكيفية التعامل معها، في تجنب التصرفات الخاطئة والوقوف في وجه التهديدات السيبرانية بشكل أفضل. بالإضافة إلى ذلك، تلعب الثقافة المؤسسية دورًا هامًا في تعزيز الأمن السيبراني. ويجب أن يتم تعزيز الثقافة التنظيمية التي تعتبر الأمن السيبراني مسؤولية مشتركة بين الجميع، أفرادا والمؤسسات.

يضمن البعد الاجتماعي في مجال الأمن السيبراني مسألة التوازن بين الخصوصية والأمن. فمن جهة، يجب حماية الخصوصية الشخصية للأفراد، ومن جهة أخرى، يجب الحفاظ على الأمن السيبراني ومكافحة التهديدات الإلكترونية. هذا يتطلب إيجاد خطة متوازنة تحقق الهدفين دون التضحية بأحدهما، وأن يكون البعد الاجتماعي للأمن السيبراني في مركز الاهتمام، حيث يسهم الوعي والتثقيف بشكل فعال في تعزيز مقاومة المجتمع ضد التهديدات السيبرانية، وضمان سلامة البيانات والمعلومات الحساسة على الإنترنت.

بشكل عام، يجب أن يتم التركيز على البعد الاجتماعي في استراتيجيات الأمن السيبراني. وينبغي أن تعتبر المجتمعات والأفراد شركاء في جهود الأمن السيبراني، وأن يتم تعزيز التوعية والتثقيف لتحقيق أمن رقمي أفضل، وتعزيز الحماية من التهديدات السيبرانية المستقبلية.

البعد القانوني للأمن السيبراني

البعد القانوني للأمن السيبراني يشير إلى المجموعة الشاملة من القوانين والتشريعات، التي تنظم وتحمي المعلومات والبيانات الرقمية من التهديدات والاختراقات الإلكترونية.

يهدف البعد القانوني إلى توفير إطار قانوني يحمي الأفراد والمؤسسات من الاعتداءات السيبرانية، ويعاقب المتسببين في الهجمات الإلكترونية. تختلف التشريعات القانونية المتعلقة بالأمن السيبراني من بلد إلى آخر، وتتضمن قوانين حماية البيانات، وقوانين مكافحة الجرائم السيبرانية، وقوانين تنظيم الاتصالات الإلكترونية، وقوانين حقوق الملكية الفكرية، وقوانين الخصوصية الإلكترونية، وقوانين الاعتراف القانوني للتوقيع الإلكتروني، وغيرها من التشريعات ذات الصلة.

تعزز التشريعات القانونية للأمن السيبراني من خلال تحديد الأنشطة غير المشروعة على الإنترنت، وتحديد الجرائم السيبرانية وعقوباتها. كما تحمي حقوق الأفراد والشركات فيما يتعلق بالخصوصية والملكية الفكرية والمعلومات الحساسة.

يشكل الفضاء السيبراني بطابعه الشبكي نمطا جديدا من أشكال التنظيم الجماعي، فهو يساهم في تشكيل فضاء يمارس من خلاله كل أشكال النقد الموجه ضد السلطة والمجتمع والأفراد. ولكن تبقى علاقة الفضاء السيبراني بالأجندات السياسية والجيوسياسية والجيواقتصادية للحكومات الخارجية المنافسة، والشركات المتعددة الجنسيات والأفراد، خطرا محدقا على أمن المجتمع.

ستظل مشكلة حريات التعبير موضع خلاف بين الدول وبين الشعوب، فالحرية مؤشر أساسي من مؤشرات المواطنة الحقيقية في الدولة لا جدال فيها، وتواجد أدوات الردع القانوني مؤشر أساسي لتحقيق سيادة الدولة وإحكام السيطرة على الحقوق المدنية للمواطنين والمجتمع. ولكن يبقى الخلاف الأهم بين ما تراه السلطات العليا للدولة من صالح للمواطنين، وبين ما يراه المواطنون من حقوق وحريات، ليس للدولة الحق في التدخل فيها.

من خلال إنشاء إطار قانوني قوي للأمن السيبراني، يتم تعزيز الأمن الاجتماعي وتوفير بيئة آمنة للمستخدمين الذين يتعاملون مع البيانات الرقمية، وضمان حماية خصوصياتهم وبياناتهم ذات الطابع الشخصي.

البعد العسكري للأمن السيبراني

البعد العسكري للأمن السيبراني يشير إلى جانب الأمن السيبراني، الذي يرتبط بالجوانب العسكرية والدفاعية. وهو يهدف إلى حماية البنية التحتية السيبرانية للقوات المسلحة والأنظمة العسكرية، من الهجمات السيبرانية وتأمين المعلومات الحساسة والمهمة للأمن القومي.

يتطلب البعد العسكري للأمن السيبراني وجود استراتيجيات وقدرات للكشف المبكر عن التهديدات السيبرانية المحتملة، ومنعها والاستعداد للرد عليها بل واتخاذ اجراءات رادعة. يتضمن ذلك تطوير تقنيات وأدوات للكشف عن الاختراقات والاعتداءات السيبرانية والاستجابة لها بسرعة وفعالية.

تشمل القدرات العسكرية للأمن السيبراني القدرة على تتبع ورصد الهجمات السيبرانية، وتحليلها، وتحديد مصادرها، وتقييم الأضرار المحتملة، واستعادة الأنظمة المتأثرة والتعافي من الآثار الناجمة عنها بسرعة. كما تشمل أيضًا القدرة على تنفيذ ردود أفعال عسكرية متناسقة وفعالة في حالة تعرض القوات العسكرية لهجمات سيبرانية. تُعد العمليات العسكرية السيبرانية أيضًا جزءًا من البعد العسكري للأمن السيبراني، وتتضمن استخدام القدرات السيبرانية لدعم العمليات العسكرية الميدانية وتحقيق الهدف العسكري المطلوب. يتضمن ذلك استخدام التكنولوجيا السيبرانية في جمع المعلومات الاستخباراتية، والتجسس والتخريب والتعطيل وغيرها من الأنشطة ذات الصلة.

بالمجمل، يُعتبر البعد العسكري للأمن السيبراني أمرًا حيويًا للدفاع العسكري والأمن القومي، حيث يعمل على حماية البنية التحتية العسكرية والمعلومات الحساسة، والحفاظ على قدرات القوات المسلحة في مواجهة التهديدات السيبرانية.

كما رأينا، فإن الفضاء السيبراني قام بتشكيل نمط جديد من البنية المجتمعية التي تولد عنها مفهوم الأمن السيبراني، كمكون جديد من مكونات الأمن القومي. ويشتمل الأمن السيبراني على جل الأبعاد التي يشتمل عليها الأمن التقليدي، كالبعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني والعسكري، لكن أيضا خلق الفضاء السيبراني مصطلحات ومفاهيم جديدة في السياسة والاقتصاد والقانون ومختلف العلوم، مثل الحوكمة الرقمية والسيادة الرقمية والثقة الرقمية ....الخ، و هي مصطلحات حرية بالدراسة.

 

مقدم سعدبوه الشيخ محفوظ الحبيب

 

اثنين, 13/05/2024 - 10:25

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك