عرفت البشرية منذ فجر التاريخ، أنماطا مختلفة من نظم الحكم كانت في أغلبها مبنية على نظريات الإستبداد والإنفراد بممارسة السلطة، تبعا لأوضاع سياسية معينة واستجابة لموازين قوة تتغير بإستمرار، تسمح للأقوى أن يسيطر ويحكم على حساب الشعوب المغلوبة.
وقد ظهر للبعض منذ عصور سحيقة، أن الحق في الحكم يعود إلى المحكوم وأن الأخذ بإرادة الشعب ورغباته أمور لابد منها في إختيار المحكومين.
وفي العصر الحديث، ومع تزايد وعي المجتمعات وتضاعف رياح التغيير القادمة من كل مكان، بدأ اللجوءإلى الشعوب لاختيار القائمين على أمورها يصبح أكثر إلحاحا وأهمية، وبدأ الأسلوب الديمقراطي في الحياة السياسية الحديثة يفرض نفسه بإعتباره الأمثل والأكثر قابلية للبقاء من جهة، وبإعتبار أن الأقوى ليس سوى الشعب نفسه من جهة ثانية.
لكن الحياة الديمقراطية لا يمكن أن تكون هدفا بحد ذاتها، وإنما هي وسيلة تمكن المجتمع المطبق لها من تحقيق نمو أكثر وتقدم أحسن، من خلال تحرير طاقات المجتمع وخلق ظروف ملائمة لعملية تنموية، يشارك فيها الجميع في مجهود البناء، بفرص متساوية وإرادة حرة، بعيدا عن القهر والظلم والاستبداد، فالشعب يحكم من خلال ممثلين اختارهم بنفسه لسن القوانين، وآخرين لتنفيذها مسؤولين أمام ممثلي الشعب.
ولكن التطبيق العملي لممارسة الديمقراطية لم يكن دائما عند حسن ظن دعاتها، فكثيرا ما جرت الحروب الأهلية الطاحنة تحت ستار الديمقراطية، وغالبا ما تطاحنت الأحزاب السياسية مضحية بمصالح الأمة ووحدة شعبها، وظهرت صحف مغرضة لا هم لها إلا التشهير بالأشخاص وامتهان المزايدات للحصول على مكاسب سريعة تحت عنوان "حرية الكلمة ". أضف الى كل ذلك الفهم الخاطئ الذى يتولد أحيانا في أذهان بعض الأفراد من أن الديمقراطية تسمح لهم بعدم احترام مؤسسات الدولة، وكذا سلطاتها باعتبار أن المساواة في جوهر الديمقراطية وفي ظلها، ينعمون ويصبحون أحرارا يفعلون ما يشاؤون.
حقا إن الديمقراطية مكسب ثمين والحرية جوهرها، ولكن الحرية لابد لها من قيود تحفظها من الزلل والانحراف نحو الفوضى. وبمعنى آخر فإن هذه القيود ضرورية للحفاظ على الحرية نفسها.
ومما لاشك فيه أن التقدم وعملية البناء لايمكن أن يتحققا في ظل الحروب والتطاحنات والفوضى، إن عبوة متفجرة تنسف في لحظات جهود عشرات الآلاف من العمال طوال سنين، ومظاهرة لمجموعة من الناقمين وأعمال الشغب التي قد يقومون بها، قد تعطل الخدمات في مدينة بكاملها، والثمار المتوخاة من الديمقراطية لايمكن أن تكون سوى تحسين ظروف المجتمع والمواطن وتحرير طاقات الفرد الخلاقة، ليسهم في التنمية والعمل الجماعي البناء وشعور أفراد الشعب بالكرامة الإنسانية اللائقة بها.
ومن المؤكد أنه في غياب جو الطمأنينة والهدوء والنظام، فإن كل تلك الأمور ستغدو حلما بعيد المنال، فلا العمل البناء ممكن في ظل التخريب، ولا الشعور بالكرامة والحرية متاح في ظل الخوف.
ولعل الحاجة الى الممارسة الديمقراطية في ظل الأمن والنظام تظهر أكثر وضوحا في الدول الحديثة العهد بالإستقلال، حيث لما يتركز بعد مفهوم الدولة في الأذهان بما فيه الكفاية، وحيث التحديات في وجه التنمية أكثر جسامة وطريق التقدم أكثر وعورة وتعترضه عقبات كثيرة، بحيث يكون باستطاعة الفوضى أن تقضي في أيام قليلة على مكاسب مجتمع قدم الكثير من التضحيات في سبيل الحصول عليها.
ومن هنا تتضح مسؤولية جميع فئات المجتمع في الحفاظ على المكسب الديمقراطي، والحفاظ على جو الهدوء والنظام والاستقرار، كشرط للممارسة الديمقراطية الصحية وجعلها أكثر عطاء وقيمة.
النقيب آدبه ولد أعمر
التاريخ2007/7/01