المؤسسة العسكرية والهواجس الأمنية

في أحد أفلام هوليود المشهورة التي تتحدث عن الصراع بين القوتين العظميين، ومعسكري الحرب الباردة في ستينيات القرن الماضي قال قائد إحدى الغواصات الأمريكية، وهو جنرال عجوز في مرحلة مطاردة حرجة بعد أن صدر له أمر من القيادة العامة بإطلاق صواريخ نووية تكتيكية على غواصة روسية إن هي تقدمت عشرين عقدة أخرى وهي تكاد تصل النقطة المحددة، قال لمساعده بعد أن تلكأ في تنفيذ أوامر القيادة وحاول أن يناقشه في خطورة الأمر قال لهذا المساعد:" أيها الفتى اليافع نحن هنا لحماية وتأمين الديمقراطية لا لممارستها".

هذه المقولة الدالة، تذكر المهتم بأحد أقدس المبادئ العسكرية وهي تنفيذ أوامر القيادة بكل راحة بال، لما ينطوي عليه ذلك من أهمية بالغة في تأمين الوحدات والفرق والمفارز ومراكز القيادة وخطوط التأمين ونقاط التجمع، لكنها أيضا وهذا هو الأهم تعيد إلى الأذهان حقيقة تغيب عن الكثيرين في خضم التفاصيل الموجعة للحياة اليومية، وهي أن جريان الحياة الاعتيادية وانسيابيتها لم تهبط من الفراغ ولم تنبت من عدم وإنما توجد وراءها أعين ساهرة، وقلوب تنبض بالقلق خوفا علي وتيرة الحياة أن تتوقف، أو أن يهرع أهل الأسواق عن أموالهم خوفا على أنفسهم، أو يختل التوازن الدقيق بين كفتي الطمأنينة الجماعية والقلق الفردي، وبالتالي يتهتك الحاجز الشفاف بين الأمن والخوف، بين اليأس والأمل ..

وإن أعدنا المسألة التي يطرحها عنوان هذه المقاربة فسنجد جملة من القضايا التي تحتاج إعادة النظر، والي تصحيح وهي:

أولا : أن فهم طبقة المثقفين والمتعلمين في الوسط المدني والعسكري عندنا لأهمية وخطورة الهواجس الأمنية، مازالت مرتبطة إل حد كبير بمفهوم العصا الغليظة التي طرحت مع بواكير ظهور الدولة الاستعمارية، ففي اللاوعي لدى الكثير من هؤلاء ما زال الأمن مرتبطا بالقهر والإكراه، اللذين رأى أساطين ومنظورو الإدارة الاستعمارية في بداية القرن العشرين، أنهما الوسيلة المثلى لفرض النظام والأمن على ساكنة هذه الأرض.

ثانيا : إن مؤسستنا العسكرية نمت وتنمو في ظل وضعية داخلية طبعتها تغيرات لافتة، من أهمها أنها المؤسسة العسكرية الوحيدة في الوسط والمناخ المشابهين، التي حافظت على كيانها المؤسسي في ظل توترات ذات طبيعة إثنية وعرقية، كما رعت وحمت مسلسلا ديمقراطيا، طبيعته الشفافية في نهاية مشواره، وكان الفضل فيه لها دون غيرها، على ما رافق ذلك من تحفظات لدى البعض في المراحل الأولى لهذا المسلسل، ومن رضى أقرب إلى التواتر في مراحله النهائية ..

ثالثا : الوضعية الإقليمية لبلدنا ذي المساحة الشاسعة، والمفتوح على المجابات الكبرى اللامتناهية، وكونه من الناحية السيسيو- جغرافية يشكل جسرا بين عالمين مختلفين، وقنطرة لثقافات وشعوب متباينة، يجعل الهاجس الأمني حاضرا بقوة، خاصة بعد أن خلقت العولمة أسباب مؤرقاتها، بأن بذرت قواها الراعية لها بذور ما أسمته " الإرهاب العابر للقارات " للقضاء على خصمها التقليدي الشيوعية، وحين فرغت من هذا العدو وجدت نفسها وجها لوجه مع هذه القوة الجديدة المصممة أصلا بطريقة يستحيل معها التحكم فيها، فانقلب السحر على الساحر، كما يقال ..وسادت مفاهيم أمنية جديدة لاتقيم كبير وزن للمقولات والمفاهيم التي قام عليها " المجتمع الدولي "، وبالتالي تضاءلت في هذا العالم المشبع بأسباب التوتر قداسة الحدود، ومفاهيم السيادة، والحوزات الترابية ..

رابعا : هناك بعض القضايا التي تحتاج دراسة واعية، ومتأنية، لعلاقتها العميقة بالهواجس الأمنية، ومن المناسب لمؤسستنا العسكرية أن تحوز شرف رعايتها والقيام عليها، أو الإسهام في إشاعة الاهتمام بها، والسهر على تطبيقها، وهي قضايا الإصلاح الإداري والمؤسسي، ومحاربة كافة الظواهر والمفاهيم الاجتماعية التي تحول دون اختفاء ظاهرة الفساد والتسيب، التي تنتج بصورة آلية عن ضعف مؤسسة الدولة، والشعور بغيابها في أكثر من أوجه الوعي الجماعي، والتأمل العميق من أجل الكشف عن الأسباب النفسية والاجتماعية لشيوع عدم التحرج من التحايل على الممتلكات العمومية، وعدم الاكتراث إزاء رموز الدولة، وعدم الاهتمام بالشأن العام ..

بناء على هذه القضايا التي أثرناها بقصد فهم أكثر شمولية لما أسميناه الهواجس الأمنية، نستطيع أن نستشف هذه الهواجس في تراتبيتها الطبيعية، انطلاقا من بنية ذات عناصر يطبعها التجديد، والعلاقة وطيدة بين هذه الهواجس والبنية الصماء للمجتمع، أي البنية المفهومية والأيديولوجية التي تمتاز عادة بالثبات والتغير الكمي البطيء، نستطيع أن نستشف عناصر هذه البنية:

العنصر الأول : هو هاجس الرتابة، ويعني أن الإنسان بكينونته الطقوسية المتمثلة في ولعه الدائم بأمر ما يؤكد رتابة حياته، وأنها ليست عرضة لهزات، مسكون بتعلقه بما يرمز للرتابة، والتكرار الاختياري للحياة اليومية، وأي اختلال في هذه الرتابة يعرضه لضروب من القلق الدائم، قد يترجم إلى هستيريا تنتقل عدواها داخل المؤسسة الاجتماعية دون أن يشعر الناقل أوالمنقول عنه، ولعل هذا ما يفسر الأهمية البالغة للتجمع اليومي لأفراد الجيش للاستماع للنشيد، وتحية العلم، وخطورة التغيب عنه في السيكولوجيا العسكرية .. وما هرع الجنود وأفراد الأمن في اتجاه أي مؤرق لهذه الرتابة إلا دليل قاطع على أهمية هذا الهاجس وضرورة الاعتناء بضمانه، والسهر على ذلك.

العنصر الثاني : هو هاجس القلق و الإحساس بالخطر ويرفد ذلك عادة بمشاكل لصيقة بالإنسان، ومتعلقه الأول أمنه التمويني، من غذاء ووسائل عيش كريم، وحنينه إلى الرفاهية، والتحسين من ظروفه الطبقية، بمعنى توقه الكبير إلى الانفلات من طبقته إلى الطبقة الأعلى، وهذا الهاجس تترتب عليه الكثير من الضرورات والواجبات، من تخطيط اقتصادي واجتماعي من طرف أي دولة لدى القائمين عليها وعي بأهميته لبقاء هذه الدولة أوتلك، وما طغيان عدم الثبات في الدول إلا بسبب غياب الشعور بالأمان الاقتصادي، واليأس من تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية لأفراد المجتمع.

العنصر الثالث : هاجس الخضوع الاختياري، ولأهمية هذا الهاجس فإنه بحاجة لبعض التوضيح، فهو يتعلق أولا ببنية الوعي العميقة للمجتمع لأنه يتنزل من جهة في البنى القناعية من عقيدة، وتعاليم وأدبيات، وحتى بعلاقات الإنتاج داخل المؤسسة الاجتماعية، تلك العلاقة التي تحدد طرق ووسائل توزيع العمل والثروة، ومتعلق هذا الهاجس هو الحساسية المفرطة، لأنه يرتبط بالمشاعر، وبالتالي فهو متموقع في الدائرة ما تحت الخطوط الحمراء، وتحتاج المؤسسات الأمنية الواعية إلى الحرص المفرط على أن تبعده عن دائرة التداول والأخذ والرد، لأن الخلاف فيه والتداول حوله، والمساس به مكمن لفتنة نائمة في كل نفس.

العنصر الرابع : هو عنصر القوة، ونعني بها القوة المادية ذات الطبيعة المزدوجة ما بين الإكراه والعنف من جهة، والمؤسسة على بعد أخلاقي لا غبار عليه من جهة أخرى .. وهذه القوة على ضرورتها الكبيرة فإنها في ذيل قائمة الهواجس الأمنية، لأن الخضوع للقوة مرتبط ببنية معقدة من الروافد الحافة، إن لم تتوفر تحول هذا الخضوع إلى تمرد وثورة عامة، لهذا تحرص الدول المتحضرة القائمة على أسس سليمة، أن تعطي أي انطباع بأن لدى الدول منزع فئوي أوطائفي، أو قبلي، أوشخصي، أو أن مؤشر ثورتها يتجه في هذا المنحى، وإن ساد شعور داخل المؤسسة بسيادة هذا المنزع، فيمكن للدارس أن يبدأ بالعد التنازلي لتلاشي هذه الدول، ويتطلع بثقة لظهور دول جديدة ..

هذه المفاهيم الشمولية، إنما نبرزها كقراءة سريعة تتعلق بمفهوم مهم تقوم عليه كل الدول، وترعاه عادة مؤسساتها العسكرية باعتبارها أهم رمز لوحدة الدول والشعوب والأمم ..


الكاتب محمد الأمين ولد أحظانا

2008/7/01

خميس, 02/08/2012 - 14:23

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك