شهادات عن المئوية الأولى لمجلة "الجيش"

في أحياء الصفيح التابعة لمقاطعة الميناء بالعاصمة نواكشوط ترعرعت، بعد أن قذفت بنا أقدار الجفاف الذي ضرب البلاد منتصف السبعينات. تأخر نزوحنا من الريف إلى منتصف الثمانينات، لكنه كان من نتائج تلك السنوات الصعبة، على مجتمع ألف الانتجاع، وكانت الثروة الحيوانية جل ممتلكاته.

كانت صباحات النصف الثني من العقد التاسع من القرن العشرين تعبق بأناشيد تتناهى إلى أسماعنا مع دبيب الحركة في حي تحتضنه قاعدة البحرية الوطنية. "موريتان لنا ولا لغيرنا" تتهادى بها أصوات جهورية، على إيقاع منتظم من ضرب الأرجل على الأرج؛ يكاد يتحول لحنا متناغما مع تصاعد لهيب الحماس إلى أعالي القفص الصدري.  

إنها روح جديدة تغزو وجدان أطفال وجدوا أنفسهم يتعرفون على مجتمع جديد لا يشكل الانتماء التقليدي فيه إلا غشاء شفافا آخذا في التلاشي والاندثار. بدأت شخصية الموريتاني تتشكل في جيلنا بفعل انسياب تلك الأصوات في أثير الصباح العطر ممتزجة بروائح الأشياء الأصيلة؛ أريج الخشب المبلل بندى المحيط، الخبز المصلي على نار أشعلت بالحطب، همهمات الأمهات، وهن يودعن أطفالهم الناهضين لتلقي المعارف.. قرع نعال الآباء في بداية كدحهم اليومي من أجل لقمة شريفة.

كان المساء موعدا مع ذات المشهد يتكرر بأهازيجه، بكبريائه، بروحه التي تغمر الأفق. يزيدها وضوحا مشاهدة الرؤوس الحليقة، ومتابعة الأقدام ترتفع، وتضرب الأرض بحميمية، في إيقاعها المنتظم، مؤكدة العهد مع هذا الأديم الندي.. لم يكن يفصلنا عن التحليق بأحلامنا سوى ذلك السياج الذي انفتحت فيه بعض الثغرات ندلف منها، فنتملى المشهد عن قرب، وربما نالنا حظ من عشاء، أو عقوبة بدنية تناسب أجسادنا النحيلة، لكنها تزجرنا عن التطفل.

بهذا الخليط تشكل وعيي بالجيش الوطني، ومعه نمت أحلامي بحمل نياشين على منكبي، عدتني العوادي عن تحقيق ذلك الحلم الذي ما زالت آثاره باقية إلى اليوم في شكل نظرة إعجاب، واعتزاز بأبهة الزي العسكري، وبريق النياشين على الصدور والأكتاف.

انكتم الحلم، وبقي صوت ذلك النشيد يتردد في الوجدان، حاملا معه تلك الصورة الصباحية الملتهبة إشراقا. يتجدد الوعي مع كل شعور بالخطر؛ جماعيا، كان أو شخصيا، وتستعاد السكينة مع كل ظهور جديد، لتجسيد ذلك المعنى السامي للانتماء المنغرس في كلمات النشيد. وفي كل مرة كنت أشاهد شهداء الجيش يسقطون دفاعا عن الحمى يزداد عمق إيماني بأن تلك الكلمات انغرست في نفسوهم، وأعادت تشكيل كيانات ذلك الشباب الغض، وغيرت مفاهيم الحياة والموت وفلسفتهما؛ "فالموت في سبيل الوطن هو الحياة".

بعد عشرين عاما، وبهذا الخليط من الوعي، والمشاعر، ودفين الأحلام، دلفت أول مرة إلى مبنى قيادة أركان الجيش الوطني؛ كانت الدعوة قد وصلتني، عن طريق صديق، لأكون عونا لفريق "مجلة الجيش"، هذا المولود الإعلامي الجديد. بفعل قراءات متعددة كانت تحضرني أسماء شخصيات صحفية اقترنت بعسكريين، وصنعت تاريخا زاوج بين تجارب الصحافة وخبرات قادة الجيوش، وقرأت مذكرات رجال سلاح، آمنوا بأن الكلمة أحد السلاحين.

لكني لم أعتقد أني سأجالس أرباب كلمة ما زالت النياشين تزين أكتافهم؛ إنهم يكتبون. ما زلت أتذكر أول مداد بندقية تنسمت عبيره في كلمات الصديق العقيد، ذي القلم العبق، سيدي محمد ولد حديد، وفيه قرع ناظراي أول مرة اسم كتاب "فن الحرب"؛ إن الكلمات تقاتل على صفحات مجلة الجيش، تعتمر قبعاتها، وتحتبي بنادقها، وهي تخبر عن تضحيات البواسل، لقد نذرت الكمات نفوسها للفداء، فعرفت القارئ على تضحيات المقاومة، وبواكير تكون الجيش، ومزجت أدبيات التضحيات والفداء، بتأريخ حي لواحد من الأعمدة الركائز لموريتانيا الحديثة؛ موريتانيا التي "لنا ولا لغيرنا".

عقد ونيف من السنوات، وتلك البذرة تنمو مع الوقت، لتصبح واحدا من أهم مراجع الأحداث الوطنية الكبرى، وسجلا يلحق بواسل اليوم بأسلافهم. لقد كانت نافذة على أدبيات مؤسسة عريقة، عاصرت نشأة الوطن، ومزجت مراحل نموه بدماء أبنائها.

رابطت مجلة الجيش على ثغر الذاكرة العسكرية للوطن، فربطت ماضي التضحيات بحاضر الفداء؛ قرأت في زاوية الذاكرة في العدد قبل الأخير من المجلة عن أدوات القتال التقليدية؛ فأنارت أمامي دروب حكايا غائمة، عن حجم الإصرار الذي تحلى به مقاومونا، وهم يواجهون آلة استعمارية متقدمة بسنوات من حيث التسليح والتكتيك.

حين كنا نعد عناوين السياسة التحريرية سألت المدير الناشر الحالي (كان يومها سكرتير تحرير) عن طريقة ترتيب الصفات والأسماء التي سنعتمدها، معددا بعض الخيارات والنماذج، فكان جوابه المختصر أن الرتبة العسكرية قرينة الاسم، ويجب أن تلتصق به؛ كان هذا أول درس فتح في وجهي مغاليق الشخصية العسكرية، وأفهمني أن شرف العسكرية ليس ترفا بلاغيا، وأن ارتباطها بالتضحية والفداء ليس شيئا عابرا، أو اعتباطا، بل هو جزء أصيل من فطرة العسكري، تنميه أدبيات التدريب والانضباط، والجندية.

أستسمح؛ فقد آن أن نقول لمجلة الجيش في عددها المائة إنها ليست مجرد مجلة. إنما هي كوكبة من الفدائيين ترابط على ثغر الكلمة والذاكرة، تحفظ للأجيال جزءا من ذلك التاريخ الوضاء، الفاعل الخلاق.

 

محمد عبد الله ولد لحبيب

رئيس السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية

 

أحد, 18/05/2025 - 17:23

كان الجيش الوطني شاهدا على لحظة ميلاد الدولة وراعيا لمرحلة التأسيس وحاضرا في عملية البناء وفاعلا في صنع المستقبل...
كان منذ البداية عينا ساهرة على أمن المواطنين وعزة الوطن ولسوف يظل على هذا النهج.

تابعنا على فيسبوك