يتناول هذا المقال مشاركة الموريتانيين في الحرب العالمية الأولى، ما حجمها؟ ما طبيعتها؟ وما مصير من شارك من الموريتانيين في تلك الحرب الكونية الفاجعة؟ وكيف لم تقتصر تلك المشاركة على القتال تحت ألوان العلم الفرنسي، بل إن من بين الموريتانيين من شارك في تلك الحرب مع العثمانيين، وفيهم من قاتل الأتراك في المشرق إلى جانب أشراف الحجاز، فيما يعرف بالثورة العربية التي قادها الملك الحسين بن علي وابناؤه عبد الله وفيصل وعلي.
سنة 1918:
مخطط بياني يؤخذ من أصل المادة
في سنة 1918 سبب وفاة أكثر الجنود الموريتانيين هو نيران قوات المحور، لكن هناك تقارب بين نسب من توفوا جراء الإصابات بالجروح، مع نسب من فُقدوا أثناء المعارك ومن أصيبوا بأمراض.
ثامنا: توزع الجنود الموريتانيين على الفيالق العسكرية
مخطط بياني يؤخذ من أصل المادة
سيطر الانخراط في الكتيبة السنغالية على الأغلبية المطلقة للجنود الموريتانيين المشاركين في الحرب العالمية الأولى، حيث بلغت نسبة الموريتانيين المنضوين تحت هذه الكتيبة 95.45 %، وهي الأغلبية الساحقة، أما ما عدا هذه الكتيبة من الفيالق كمستوع مانتون وسلك المشاة المختلط وغيرهما، فإن نسبة الموريتانيين فيها كانت ضئيلة جدا.
ظلت موريتانيا في التقسيم الإداري الفرنسي مرتبطة بالسنغال، وكون الفرنسيين كانوا يديرون بلادنا من مدينة سان لويس السنغالية، ما عدا الحوضين اللذين تتم إدارتهما من انيورو؛ عاصمة السودان الفرنسي، وربما يكون هذا سبب تسجيل الموريتانيين ضمن الكتيبة السنغالية.
تاسعا: أين توفي الجنود المويتانيون في الحرب العالمية الأولى؟
مخطط بياني يؤخذ من أصل المادة
يتضح من هذه الخريطة أن مكان وفاة الجنود الموريتانيين في الحرب العالمية الأولى موزع إلى ثلاث مناطق: أولا: فرنسا، وثانيا منطقة البلقان وتركيا، وثالثا شمال إفريقيا.
ويبدو أن شمال وشمال شرق فرنسا كانت به أكثر مدافن الجنود الموريتانيين، وهو ما يعني أن أغلبهم مات خلال المواجهات بين الجيش الفرنسي والجيش الألماني. وفي حين كان جنوب وجنوب غرب فرنسا أي قريبا من الحدود مع إسبانيا مكان هاما لوفاة الكثير من هؤلاء الموريتانيين.
خلفية مشاركة
الموريتانيين في الحرب
العالمية الأولى
لم يشكل الجنود الموريتانيون المشاركون في الحرب العالمية الأولى وحدة مستقلة، بل ظلوا جزءا من الكتيبة السنغالية بحكم العلاقة الوثيقة بين موريتانيا والسنغال في زمن الاستعمار الفرنسي، وكان الجميع ضمن سلاح المشاة في الجيش الفرنسي.
وكانت الإدارة الفرنسية تحصر في دكار عاصمة السنغال جميع الشباب المجندين من مختلف مستعمراتها في غرب إفريقيا، بما فيها موريتانيا، ويتم نقلهم بحرا إلى الموانئ الفرنسية.
ويبدو أن جنود الكتيبة السنغالية، ومن ضمنها الموريتانيون، كانوا رأس الحربة ضمن الجنود الأفارقة الذي زجت بهم فرنسا في الحرب العالمية الأولى، فقد أبلوا بلاء حسنا وأظهروا الكثير من الشجاعة والبسالة والصبر والإيثار، وهي صفات الجندي المثالي.
وأغلب هؤاء الجنود هم من فئة الشباب الذين تم اكتتابهم على عجل خلال سنوات الحرب الخمس؛ بحكم ظروف الحرب وحاجة الجبهات الفرنسية إلى مدد بشري. وقد قضت نسبة هامة منهم وبقي بعضهم ورجع إلى موريتانيا أو إلى المستعمرات الفرنسية في شمال وغرب إفريقيا. وتذهب التقديرات الفرنسية إلى أن من توفوا يشكلون ما يناهز نسبة 16 % من جميع المسجلين، غير أن أغلب من نجا من الحرب ورجع كان معاقا.
وصل أغلب هؤلاء الموريتانيين إلى فرنسا منتصف سبتمبر 1914، وانضموا للكتيبة المغربية التابعة لسلاح المشاة الفرنسي، وشاركوا مباشرة في معركة نويون بشمال فرنسا في خريف سنة 1914. كما شاركوا بقوة في معركة الدردنيل ضد قوات المحور بآسيا الصغرى سنة 1915، وغير ذلك من المعارك الفاصلة في الحرب العالمية الأولى.
في سنة 1917، أصبح النائب عن مستعمرة السنغال بليز دياني مفوضًا عامًا للقوات الإفريقية برتبة أمين عام وزارة للمستعمرات. وقد نجح إلى حد كبير في تجنيد الكثير من الشباب الإفريقي ما بين فبراير وأغسطس 1918. وقد سافر مرارا إلى جميع المستعمرات بما فيها موريتانيا، وقد وعد الجميع بميداليات عسكرية وأجور عالية وتغذية صحية وملابس مناسبة، فضلا عن الحصول على الجنسية الفرنسية بمجرد انتهاء الحرب. وهي أمور لم ينجز منها شيء.
وفي بداية الحرب، خصصت الإدارة الفرنسية عددا خاصا من مجلة العالم الإسلامي للحملة الإعلامية على الأتراك، فقامت باستكتاب الكثير من أعيان البلاد وأمرائها وشيوخها وغيرهم من أعيان وشيوخ إفريقيا الغربية، للتصدي للعثمانيين، ووصف دخولهم للحرب إلى جانب دول المحور بأنه طيش ونزق.
ثانيا: ضابط موريتاني في الجيش
العثماني في الحرب العالمية الأولى
إنه زين العابدين الشيخ محمد الأمين بن زينى القلقمي المولود نهايات القرن التاسع عشر الميلادي في منطقة الحوض، وهو من أسرة أهل الشيخ سيدي محمد القلقمي وهم من بيوت السيادة والشرف في موريتانيا.
كان مع والده الشيخ محمد الأمين لما قاد هجرة الغظف الشهيرة سنة 1909 ابتعادا عن الفرنسيين وإيثارا للغربة على مساكنتهم، وكانت تلك الهجرة عبارة عن جمع كبير من الأسر الموريتانية من قبائل شتى، وقد حل الركب الغظفي في منطقة فزان بليبيا سنة 1911م، وشاركوا مع المقاومة الليبية في معارك سواني بن يادم ضد الإيطاليين سنة 1912، وأثناء تلك المعركة تعرف زين العابدين على القائد التركي مصطفى جمال أتاتورك، الذي كان على رأس الجيش التركي بليبيا، والذي سيصير رئيس أول جمهورية بتركيا. ومن ليبيا توجهت تلك الأسر الموريتانية إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج والزيارة، ثم شدوا الرحال نحو الأردن، ومن هناك ذهب الركب إلى تركيا وخصوصا مدينة أضنة حيث استقروا هنالك بشكل نهائي.
في تركيا انخرط زين العابدين في الجيش العثماني، الذي كان قد تعرف على بعض قادته في ليبيا سنة 1912، وكان مقاتلا شجاعا ضمن كتائب العثمانيين ومن معهم من قوات المحور في معاركهم ضد جيوش الحلفاء. وحسب الوثائق الفرنسة التي بحوزتي فقد ترقى زين العابدين في السلم العسكرية ليصير أول ضابط موريتاني في الجيش العثماني. وكانت علاقات زين العابدين وكذلك والده الشيخ محمد الأمين ببلاط السلطان العثماني عبد الحميد الثاني علاقات قوية، وتعززت مع كمال أتاتورك عند وصوله للحكم وإعلان الجمهورية التركية سنة 1924.
ثالثا: مشاركة الموريتانيين
في الثورة العربية بالحجاز خلال
الحرب العالمية الأولى
ذكر الباحث محمد ولد مولود ولد داداه في مرافعته في الجلسة السادسة العامة أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي، ضمن جلسات تمت في صيف سنة 1975، عند حديثه عن الموريتانيين الذين أقاموا بالمشرق وكان لهم هنالك ذكر، أن العقيد الإنجليزي لورنس تعامل مع أحد هؤلاء الموريتانيين في شمال الحجاز عام 1917، وذكر في كتابه أعمدة الحكمة السبعة أنه قتله.
وتدل هذه الإشارة على أن للموريتانيين صلة بالحروب التي وقعت في الحجاز بين أشراف مكة، المدعومين من الحلفاء وبين الجيش العثماني أثناء الحرب العالمية الأولى.
وتتأكد هذه المشاركة عندما نعود إلى كتاب أعمدة الحكمة السبعة لتوماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، وكيف كان أحمد البيظاني عنصرا نشطا في جيش أشراف مكة المعبأ ضد العثمانيين في الحجاز. وقد عدت للطبعتين الإنجليزية والفرنسية من كتاب لورنس فهما أدق وأصح من ترجماته العربية.
ذكر لورنس هذا الموريتاني عدة مرات في كتابة الأعمدة، وهو يصفه بالبيظاني (Moor) في الطبعة الإنجليزية، أو (Maure) في الطبعة الفرنسي، ويسميه تارة أحمد البيظاني وتارة يسميه أحمد فقط.
ذكر لورنس أنه في صيف أحد أيام 1917 كان قد ترك منطقة الوجه بجنوب تبوك، وكان في غاية المرض بسبب سفره الطويل مع الأمير فيصل بن الحسين بن علي الهاشمي، وكان معه حراس أربعة من قبيلة رفيدة، وانضم إليهم في طريقهم أربعة جنود من قبيلة عجيل ومعهم بيظاني وسليمان العتيبي. فهذا أول ذكر لهذا الموريتاني في كتاب لورنس.
ويتحدث لورنس عن معرفة هذا الموريتاني بطبيعة الغطاء النباتي في تلك المنطقة الحجازية؛ حيث يذكر أن أحمد البيظاني أخبرهم أن جذع إحدى الحنظلات يمكن أن يكون ذرة جيدة تصلح لعلف الخيل.
كما ذكر لورنس أن أحمد البيظاني دخل في شجار مع سليمان العتيبي فأرداه قتيلا، وقد ظن لورنس في البداية أن العجيلي هو من قتل سليمان العتيبي نتيجة الثأر القديم بين قبيلتي عتيبة وعجيل. لكن أحمد البيظاني اعترف بأنه قتل سليمان بعد أن هدده بسلاحه فما كان منه إلا أن دافع عن نفسه. ولم يكن لورنس يرغب في القصاص من أحمد لأن في الجيش موريتانيين آخرين، والسماح لأولياء دم سليمان العتيبي بقتل أحمد البيظاني يعني أن أعمالا انتقامية من الممكن أن تحدث، وهو ما سيضع وحدة جيش الأمير فيصل في خطر. ومع ذلك كان إعدام البيظاني ضروريًا كما يقول لورنس الذي اتخذ، وباستشارة من معه، القرار فقتل هو بنفسه أحمد البيظاني رحمه الله.
ومع أننا لم نظفر بمعلومات وافية عن أحمد الموريتاني، ولا عن الموريتانيين الآخرين الذين كانوا معه في الجيش الحجازي، إلا أن العناصر التي قدمها لورنس العرب عن هذا الرجل في كتابه أعمدة الحكمة السبعة تدل على مشاركة موريتانية واضحة في جيش الحجاز الذي شكله شريف مكة الحسين بن علي وكلف ابنه الأمير فيصل (ملك العراق فيما بعد) بقيادته. ويبدو أن للموريتانيين حضورا في هذا الجيش ربما نظفر بمعلومات أكثر عنه وبوثائق تنير جانبا من دروبه التي ما زالت غامضة.
خاتمة
يبدو أن الموريتانيين شاركوا في الحرب العالمية الأولى في جميع الجبهات، فكانت مشاركتهم فاعلة في الجبهات الفرنسية في أوروبا وفي آسيا الصغرى، كما أن لهم دورا مع الجيش العثماني ومعاركة، ولم يقتصر حضورهم على هاتين الدائرتين بل يذكر لهم تأثير في الحرب التي وقعت في الحجاز بين جيوش العثمانيين وبين جيش أشراف مكة بقيادة الأمير فيصل بن الحسين بن علي شريف مكة.
غير أن هؤلاء الجنود الموريتانيين ظلوا أبطالا لكن بلا مجد وبلا ذكر، باعتبار أنهم عرفوا ببسالتهم وشجاعتهم في خوض المعارك في جميع الجبهات، غير أنهم لم يجدوا الثناء والاعتبار الذي يناسب ما قدموه من تضحيات ودماء غالية.
(الجزء الأخير)
د سيدي أحمد ولد الأمير
باحث موريتاني مهتم بالقضايا الاجتماعية والثقافية
قائمة المصادر والمراجع
1)- انظر: المذرذرة في بداية الستينات، بقلم: محمد عبد الله بزيد، ترجمة: محمذن بابا ولد اشفغ، موقع نواكشوط منشور بتاريخ 26/9/2022 (تم التصفح في 20 فبراير 2024): https://shorturl.at/lmpES
2)- Voir: Base de données des Mauritaniens morts lors de la Première Guerre mondiale, Site du Ministère des Armées de France, date de publication non identifiée (Visité le 20 février 2024): https://shorturl.at/wEGK5
3)- El Hadji Samba A. Diallo, Babacar M’B AYE -Black Cosmopolitanism and Anticolonialism: Pivotal Moments, Cahiers d’études africaines, 237 | 2020, Éditions de l’EHESS, p 2.
4)- J. Aytet, « La mort de Mangin «, Les Annales coloniales, 14 mai 1925 (lire en ligne [archive]) sur Gallica.
5)- Bernand C (2006) D›esclaves à soldats: Miliciens et soldats d›origine servile-XIIIe – XXIe siècles, Éditions L›Harmattan.
6)- Chantal Antier Renaud, Les soldats des colonies dans la Première Guerre mondiale, de Éditions France Ouest, en février 2008, p. 38.
7)- Voir: Revue du monde musulman, E. Leroux (Paris), 1914.
8)- انظر: سيدي أحمد ولد الأمير، المجال الموريتاني: مقالات في التاريخ والثقافة، مركز الدراسات الصحراوية، 2014، ص 35.
9)- المداخلة الثالثة للأستاذ المؤرخ محمد ولد مولود ولد داداه خلال الجلسة السادسة العامة وذلك ضمن:
Exposé oral de Mohamed OULD MAOULOUD, représentant du gouvernement mauritanien (Seizième audience publique - 9 VII 75, 10 h 5), In Cour Internationale de Justice, Mémoires, plaidoiries et documents, Sahara Occidental, Volume IV, Exposés oraux, La Hye 1982, p 391.
10)- Colonel T. E. Lawrence, Seven Pillars of Wisdom, First published in 1926. This ebook edition was created and published by Global Grey in 2021, pp 115-116.
11)- Op. cit. p 116.
12)- Op. cit. p 117.